رفيف الشيخلي | صدر مؤخّرا للشاعر المغربي المقيم في بروكسيل، طه عدنان، ديوان جديد بعنوان “بسمتكِ أحلى من العلم الوطني” عن منشورات المتوسط. وكما قد يوحي العنوان، فالقصائد تنقسم إلى مواضيع المشاعر والأحاسيس وما تعرفه من تناقضات، وأخرى تسائل مفاهيم الوطن والانتماء بما يتخلّلها من تضاربات. فما العلاقة التي تجمع بين الأمرين؟ إن كان الوطن يوحي بالانتماء، أفلا توحي إليه المشاعر الإنسانية أيضا. ألسنا نحتاج إلى الحب بكل أشكاله الإنسانية في حياتنا؟ ولنبدأ من حيث الحبّ والمشاعر الإنسانية المتضاربة التي يعكسها الديوان ومنذ العنوان.
بين ألفة الحب وتضارب المشاعر
كيف يرى الشاعر الحب؟ منذ بداية الديوان، يعطينا الـ”دليل” بأن “الحبّ ضربٌ من المستحيل”. فلماذا يضع أمامنا هذا الحاجز منذ أول قصيدة؟ وهل القصد هو محاولة الإغلاق، أم محاولة توليد نوع من الإحساس أو الحدس لفهم بقية القصائد؟ كيف عبّر الشاعر عن “الحب” في بقية ديوانه؟ كيف يراه؟ إذ كثيرا ما نجد التباسا في المشاعر أو المفاهيم كالتردد وحب التملك وحتى الكراهية.
نحاول هنا، فهم بعض المشاعر المرتبطة بالحب، أو تأويلات الحب المعروفة. حسب الشاعر وكيفية التعبير عنها.
نجد مثلا أن الحب قد يأخذ شكل “حب تملك” أو نوعا من السيطرة على الآخر، والتي قد تُشعر بنوع من عدم قبول المحبوب على حقيقته… في قصيدة: “أريدكِ أنتِ” نقرأ هذا المقطع الأخير:
“تريدينني عاشقا في الحياة
فاسقا في السرير
متقلبا
حسب ما يقتضيه الهوى
و المقام
وأنا أريدكِ أنتِ
فقط، مثلما أنتِ”
ومن الملاحظ في القصيدة أن كل مقاطعها تبتدئ بعبارة “تريدينني” متبوعة بتشبيه بأحد الصفات. مما يوحي أن المحبوبة في القصيدة لا تقبل الآخر كما هو. بل تحاول أن تغيّر من صفاته حسب ما تشتهيه. لكن، ألا يتطلب الحب الصادق أن نحب دون مقابل، نحب الجوانب السلبية والأمور المتناقضة أيضا. بل ربما أكثر من ذلك، نقبلها ونعتبرها من “المميزات” التي تجعل الآخر متفرّدا ومختلفا. مثل من يقبل بعض العيوب الجسدية للآخر، بل ويعتبرها من عوامل جاذبيته. فما بالك حين يتعلق الأمر بالصفات الشخصية التي تعبّر عن تاريخ طويل من الأفكار والمشاعر والذكريات والتجارب… تفصح عن جوهرنا، وعن صدقنا في التصرف والتعبير؟! عدم تقبل الآخر لنا بكل نواقصنا وتناقضاتنا ومحاولته تصحيح وتقويم “اعوجاجنا”، يجعلنا نحس أنه لا يقبلنا. لا يحبنا بصدق. يعاملنا كأي شيء له القدرة على تعديله حسب متطلباته هو. خصوصا، إن كانت العلاقة التي تجمعنا بهذا الآخر هي علاقة حب. وإن كنا نحبه ونريده كما هو.
وقد عبّر الشاعر في آخر القصيدة بقوله: “فقط، مثلما أنتِ”. وكلمة فقط هنا لها أكثر من دلالة. فهي تقال عند الاقتناع والاكتفاء. كما تعني أننا نقبل العيوب أيضا. فقط، تعني أن الشاعر يقبل (بها) كما هي. يفهم أنها كائن حي، وليست شيئا يمكنه تطويره وتعديله.
فعوض أن تُشعر مثل هذه العلاقة بالانتماء والقدرة والأمل، تسبب عكس ذلك، الإحساس بأن حقيقتنا مقصية، وقد ينتهي بنا الأمر إلى أن نشعر بنوع من الصراع الداخلي بين صدق حقيقتنا وبين رغبتنا في إرضاء الآخر.
ولذلك فإن عدم حب وتقبل الآخر/المعشوق لنا، كما نحن، مع أننا أحببناه وقبلناه كما هو، أشد قسوة ومرارة ممّا قد نشعر به مع “الآخرين”. ففي جوهر الأمر كنا نميز اختلافه، وبالتالي نمارس عليه بدورنا نوعا من “التوجس” مهما حاولنا الاندماج معه… لكن، أن نحب شخصا ونقبله كما هو، فنحن نختاره. ربما لا نملك أسبابا مقنعة، لكنا نصطفيه. ندخله إلى عالمنا الخاص والحميم. فمجرد الشعور أنه لا يقبلنا كما نحن، يشعرنا بنوع من الأحاسيس السلبية. أو كما عبّر سيوران: “عندما تكره شخصا تريد منه أن يكون كل شيء إلا ما هو عليه. كتب “ت” يقول لي: بأنني أفضل إنسان يحبه في العالم… لكنه ناشدني في الوقت نفسه أن أتخلى عن هواجسي وأغير طريقي، وأن أصير شخصا آخر متخليا عن الذي أكونه. معنى ذلك أنه يرفض وجودي”.
وقد يكون الحب مترددا، خائفا، يفضل الهرب. كما تعبر قصيدة “ذرائع” ومنها هذا المقطع:
“وَدِدْتِ لَوْ
كلما
تلاْلأَتْ عيناكِ
بدمع الشوق
تجمّد
وذرفْتِ
بَدَل الدمع العزيزِ
الغزيرَ من الحصى”
يكون الإحساس بأن الآخر يحاول جاهدا الهرب منا، من مشاعرنا، أمرا مربكا. خصوصا حين يجهد في اتخاذ الحجج من أمور يعي جيدا أنها واهية وغير صحيحة. أنها متوهمة بشكل إرادي، فقط لعدم تحمّل مسؤولية قرار الهجر.
“وَدِدْتِ لَوْ
كنتُ جِلْفًا سخيفًا تافهًا
كي تَهْجُريني
دونما عقدةِ حبٍّ
فتكوني في حِلٍّ منّي
بِلا ألمٍ وَلا ندم.”
فلماذا تتمنّى المحبوبة (في القصيدة) ممارسة كل هذه الصرامة والقسوة في التعامل مع الحبيب؟ هي تود، تتمنى لو، تريد، وتجاهد كي لا تظهر مشاعرها بشكل تلقائي وعفوي. وأن تصوّر الحبيب على غير حقيقته، وتنفي عنه الصدق والوفاء… تحاول إنكار مشاعرها بإدعائها عدم تصديق حبه. لكن لماذا؟ يبدو الأمر كأنه صراع بين “نعم” و”لا”. هي تريد أن تهجر، أن تكون في حِلّ من هذه العلاقة، لأسباب متعلقة بها وليس به. يقول نيتشه: “ما يتسبّب في الزيجات التعيسة ليس غياب الحب، بل غياب الصداقة.” ومن المعروف أن أهم شروط الصداقة الحقة هو الصدق في التعامل والتعبير.
بين الحب والحرب
وماذا عن الصراع الذاتي الذي يعاني منه الشخص ليس بسبب توهم الحب، لكن على العكس بسبب محاولة الهرب أو الخوف من الحب، الذي قد يكون لأسباب اجتماعية أو شخصية أو بسبب تصرفات الآخر المحبوب؟ يقول دوستويفسكي: “من الممكن أن يكون الإنسان عاشقا، مع شعوره بالكره”. من منا لم يشعر ولو للحظات بمثل هذا الصراع؟ ليس فقط نحو المعشوق، بل نحو أغلب المقربين وحتى الشخص نفسه. كثيرا ما يلجأ الشخص إلى قرار الهجر بسبب الخذلان وسوء المعاملة، لكنه يكتشف أنه لم يكن يمارس إلا نوعا من الكذب على الذات. قد ينفضح أمام نفسه فقط بسبب صوت المحبوب. وربما هذا ما عبّر عنه صاحب “أكره الحب” في قصيدة “سمعتُكِ في الراديو” إذ يقول:
“أُقِرُّ الآنَ
كُنْتُ مَزْهُوًّا إذْ هَجَرْتُكِ
مُخْتالًا وَغَيْرَ آبِهٍ
أمّا وَقَدْ اختلَيْتُ بِصَوْتِكِ
فَأعْتَرِفُ
مازِلتُ حُبَّكِ أشكو
وَأقْتَرِفُ.”
فالأسباب كانت نتيجة خذلان الآخر، والاستغلال الذي عانى منه الشاعر. وكما يقول نيتشه: “يشعر المرء بإهانة ما بعدها إهانة إذ يكتشف أن الشخص الذي كان يعتقد أنه محبوب لديه لم يكن يعتبره إلا كقطعة من الأثاث، كشيء للزينة يمكن لربّ البيت أن يلبي به غروره أمام ضيوفه”. فهل هذا هو ما تسبب في هذه الرغبة والصراع؟ هل بسبب الإحساس بأن قصة الحب لم تكن سوى ذريعة للشهرة مثلا، وأنه قد أُستُغِل، من طرف محبوبته “الجحودة” التي تنكرت له ليس فقط كشخص مُحِب، بل أيضا كمعلمها وشاعرها الأثير. بعد أن تسببت لها “الشهرة” بالغرور والادعاء. إذ يسترجع الشاعر في نفس القصيدة:
“حينما كُنتِ حالِمَةً
مثل قصيدةٍ رومانسيةٍ
قبل أن تُفسِدَكِ اللايكات
وغَزَلُ النّقاد
على الفيسبوك”
لكن هل فعلا “الحب ضربٌ من المستحيل”؟ أم أن ما نعانيه من حزن وإقصاء وتيه وشعور بالوحدة يجعلنا ندّعي كراهية الحب كتعويض عن خوفنا من الوقوع فيه مما قد يسبب الألم والعزلة؟ فنفضّل كتمان مشاعرنا ونحب بصمت… فالصمت في الحب حمّال أوجه ! قد يعني أننا نحب بكل صدق دون أن ننتظر أيّ تجاوب من الآخر، نحمل مشاعرنا ورغباتنا نحوه دون أمل… وقد يعني أيضا الخوف من الحب، من تكرار التجارب المؤلمة، من استغلال المحبوب لنا ولو بدافع الحب، من الخذلان والرفض… أو هو عدم وضع التزام (اجتماعي / عاطفي / جنسي). وربما يكون رغبة في التأكّد من صدق مشاعر الآخر…
حتى في حالة الممارسة الجنسية، نلجأ عادة إلى الصمت، نكتفي بالتعبير عن مشاعرنا بالاستعانة بلغة الجسد، فتصبح القبل رسائل حب وأنفاس المحبوب ودقات قلبه أجمل من الموسيقى وأكثر متعة، والعناق والحضن نوعا من محاولة إدخاله إلى أعماقنا ومزجه بالروح، دون اللجوء إلى الكلمات كأننا في اعتراف. إذ يقول الشاعر في قصيدته “في الحب”:
“في الحبِّ
-آناءَ الحُبَّ-
أكرهُ عباراتِ الحُبِّ
الضَّمُّ أصدقُ أشواقا
مِنْ لجج الكلام
……….
لِمَ لا نكتفي
بالحُبِّ
يا حبيبتي
قبل أن ننام؟”
ثم إن الحب مشاعر. والمشاعر يجب أن تكون بعيدة عن كل محاولة للتحكم فيها. تكون أجمل وأصدق حين يتم التعبير عنها بشكل عفوي نابع من رغبة الشخص الحرة. بعيدا عن أي تدخل أو إلحاح.
ومن ناحية أخرى، ألا نشعر أن من يبالغ في التعبير المباشر عن حبه كأنه يحاول تملك الآخر، أو أنه يدّعي ويتوهّم الحب. أليس أفضل ألّا نمارس الحب كإحساس بشكل واضح أمام الآخرين، كأننا نخاف أو نحاول الحفاظ على طهارته من العيون المترصدة؟ جاء في قصيدة “متأخّرا كعادتي” والشاعر يتحدّث عن نوع من الهمس الذي يتمّ “من شفة إلى شفة”:
“مَسَحْتُ على فمي
بِبَطْنِ الكفِّ
آثارُ “الهَمْسِ” حمراءُ
-مثلَ جريمةٍ-
عبثا أداريها
أنا الأخشى
على الحبِّ: سِرِّ العاشقينْ
مِنَ الجَهْرِ
ومِنْ أعيُنِ الرُّقباءْ”
ألا يحيلنا كل ما سبق إلى الإقرار مع الشاعر بأن الحب نوع من الحرب، كما جاء في قصيدة “دليل”:
“الحبُّ حربٌ
كرٌّ ونفيرْ”
لكن، ألا نحتاج في حياتنا وفي الحب لبعض المشاكل التي تساعد على تأجيج المشاعر؟ أليست لحظات الحزن والأسى هي ما يمنح الإحساس بالفرح لذة أكبر؟ لـدوستويفكي عبارة يقول فيها: “إن الإنسان لا يحتاج إلى السعادة فحسب، بل يحتاج كذلك إلى الشقاء، ويحتاج إلى الشقاء كاحتياجه إلى السعادة سواء بسواء”. ألسنا نبحث أحيانا، ربما دون وعي منا، عن الدخول في تجارب غير آمنة فيها بعض “الآكشن”… ألا يشعرنا الهدوء والسلم والنقاء كأننا في مستشفى؟! الأمر صحي، لكنه دون لذة، خال من الإحساس بمتعة الصراع والمثابرة والحياة… كموسيقى رتيبة. أو كما يقول فان غوغ: “صحيح أن الحب دائما ما يجلب الصعوبات، لكن جانبه الإيجابي أنه يعطي الطاقة”.
ألا تخلق مشاكل الحب متعة حين نحاول إصلاحها وتفاديها؟ ماذا إن كان قلب المحبوبة “أبيض مثل الثلج” ألن “يشلّ المشاعر” والقدرة على الخلق؟ أو كما يعبّر طه عدنان:
“قلبك يا حبّي الرّجيم
مثل الثلج:
الوجهُ النّاصع للجحيم”
وأليس الثلج، دون غيره مما يمتاز ببياض اللون هو كما عبّر الشاعر مقابلٌ للجحيم؟ فقبض الثلج له نفس مفعول لمس النار.
حتى عنوان القصيدة “قلب الجحيم” هو عنوان صادم، مثير للتساؤلات، يعبّر عن حالة المزج بين المتناقضات. القلب يوحي بالحياة والحنان، والجحيم بالموت والعذاب… أهي حياة معذبة؟ أم عذاب حي؟ أم هي بكل بساطة لبّ الجحيم؟ الانغماس في جحيم بارد. شيء أقرب إلى الموت… هدوء تام. وألسنا نشعر بالحياة حين نثابر، نثور، نغضب، نصارع، نحاول الصعود والتحدي… نحس بطعم النجاحات، بالقليل من الأسى، حين نسرق لحظات الفرح من بطش الحزن، أو نتلذذ بأشعة شمس تحاول الوصول إلينا من خلف سحب يوم بارد.
بين الحبّ والهوية وتحوّلات العالم
حين ندعو إلى هويتنا بشكل مبالغ، معتقدين أنّ فئتنا أو طائفتنا هي الأفضل، يعني أننا نرفض اختلاف الآخر. يقول أمبرتو إيكو: “معنى الهوية يقوم على الكره، كره من هو غير مماثل”. بل يجب أن نحب الآخر، نقبله كما هو بكل اختلافاته، نساعده على الاندماج، نتفهم تناقضاته وصراعاته. أو كما يقول دوستويفسكي: “هناك نفوس تلعن العالم كله وتتهم كل إنسان ما ظلت حبيسة وحدتها الضيقة وعزلتها الخانقة. فاشملوا هذه النفوس برحمتكم وبرهنوا لها على حبكم، فإذا هي تلعن وضعها السابق وموقفها الماضي، لأن فيها قدرا من الأشواق النبيلة المكبوتة”. وهذا ما يذهب إليه أمبرتو إيكو إذ يقول: “يمكن أن نموت أو نجنّ إذا عشنا وسط مجموعة قرر جميع أفرادها ألّا ينظروا إلينا ويتصرفون وكأننا غير موجودين”.
وإلا، سيلجأ الناس إلى “المقايضة”، إلى البحث عن بديل. ما الذي يمكن لشخص يرى نفسه مقصيا من الآخر، من مجتمعه، من العائلة والسياسة والاقتصاد والعِرق والحب والصداقة الحقيقية أن يفعل؟ ألن يتّخذ من الدين ملجأ له، لكن على شكل مقايضة. وسيلة للحصول على ما حرم منه. ألن يتسبب شخص حرم من كل أنواع الاندماج والحب إلى القتل، إلى إقصاء الآخر المختلف، والانتحار تحت ذريعة الدين، بشكل أكثر عنفا وقسوة. فلنأخذ على سبيل المثال هذا المقطع من قصيدة “كابوس فردوسي” لنرى مع الشاعر في ما يرى “الحالِمُ اليَقْظان” :
“مغربيًّا من بروكسل، كان يبيعُ الحشيش في “ريبوكور” قبل أن ينضوي تحت لواءِ داعِشَ في الغبراء. متنعّمًا كان على صدر حوراءَ مجرّدَةٍ من الكِسْوَة والرّعشات. يطأُها وَطْءَ الجِمال في الرِّمال، فتَغْدو كلّما افتضَّها بِكْرًا، وَقضيبُهُ لا يَنْثَني أبدًا. مِنْ كتابٍ في يَمينِهِ تبْرُزُ أعمالٌ جِسام: تَدْميرُ مقامِ النّبيِّ يونُسَ في الموصل، تفجيرُ حسينيةٍ شيعيةٍ في كركوك، تَرْويعُ نصارى عراقيّين في نينوى، إقامةُ الحدِّ على سارقٍ في حلب، واغتصابُ سبيّتَيْنِ من بناتِ الرّوافضِ العلويّين في الرَّقة.”ّ
ألا يمكن اعتبار “كابوس فردوسي” قصيدة حب؟ دعوة لحب الآخر، لقبول اختلافه، تفهم صراعاته، احترام خصوصياته، محاولة إدماجه. كي لا تتطوّر الأمور إلى هذا الحد من الغضب والقسوة والدمار… وفي نفس الوقت، حب لضحايا هذا الموت والإرهاب. اعتذار، ومآزرة، وحزن. كأن الشاعر يحضنهم ويبكي معهم. في هذه القصيدة، ذات النفحة الإيروتيكية، يطرح الشاعر سؤال الإرهاب والتطرّف. ويقارن بين الحب الأرضي والسماوي.
لكن، ماذا لو مات الحب في قلوب الناس؟ كيف ستصبح الحياة؟ الجواب في قصيدة “سيناريو مرتجل لحياة أقل موتا”. ستتحوّل المآسي والموت نفسه إلى مجرد سبق صحفي. إلى أخبار تحتاج إلى الكثير من البهارات لتجد على الأقل من يأسف لها، إن انتبه. كما يعبّر هذا المقطع:
“تَصْطادُهم الكاميراتُ
غرقى
أو طافينَ
على ألواحِ القيامة
لتَعْرِضَهم على موائدِ العَشاءِ
والسهرة
صُوَرًا
وَسيناريوهاتٍ سائغةً
تُضْفي عليها الترجمةُ المُتَبَّلَةُ
عناصِرَ الإثارة”
صور اللاجئين وهم، كما جاء في القصيدة، “بِلا حقائبَ هربوا”. وهذا لا يعني فقط الخروج الاضطراري من الوطن، بل أيضا، ترك كل الذكريات والتاريخ والأحلام… ومحاولة الحفاظ فقط على ما تبقى من الجسد، بأمل العودة في أسرع وقت إلى حياتهم. هم الذين هربوا من “حرب الأهل” حيث أصبح الخوف هو الإحساس المسيطر هناك، فيما التيه يرافقهم أثناء التهجير حيث لم يعد بإمكانهم تمييز العدو من الصديق. هكذا تتحوّل قصصهم المأساوية إلى مجرّد حبكات يتداولها الإعلام فيما يشبه نهاية سعيدة لقصة حبّ:
“يُقَبِّل محمدُ فاطمةَ
ولا يخشى في الحُبِّ
لِحْيَةَ داعِشٍ”
هكذا تصرّ الكاميرا على اغتيال الإنسان لصالح القصة الشيّقة التي يتابعها الجمهور على نشرة الأخبار. ويتحوّل اللاجئ إلى مجرّد كومبارس جدير بالفرجة وخلق الإثارة:
“أيّها الكومبارس
اِجْمَع ما تناثر
من أزْرارِكَ
وأعْضائِكَ
ضَعْها في كيسٍ مَشْغولٍ
من جُلودِ القتلى
وَحَدِّقْ في عين الكاميرا
سنُحوِّلُكَ إلى بطل
رغم أنف الهزيمة
كيف طَوَيْتَ عشرةَ بلدانٍ
في أقلَّ من شهر؟
كيف كُنْتَ محاصَرًا بالماء
في رحلة العطش الكبير
إلى مُدن الرّماد؟”
والشاعر يسخر من طريقة التعامل الإعلامي السطحي مع اللاجئين، من انتظار فرحهم بالماديات مقابل نسيان خراب أرواحهم، وفقدان بلدانهم وأهلهم، من استغلال “المأساة” لتمرير “الملهاة”، من التوجس منهم، والإلحاح على نهايتهم السعيدة الزائفة. فهم الآن في أمان، وإن كانوا بعيدين عن حيواتهم… لكنه أيضا يعطي للاجئ/الكومبارس حقّ الرّد ليذكّرهم، بأننا كلنا لاجئون في هذه الأرض بسبب تفاحة:
“يا مَنْ لدَيْكَ العديدُ من الأجداد
في هذي البلاد الصغيرة الواطِئَة
لا تَنْسَ أنّكَ مثلي
سليلُ لاجئٍ
مطرودٍ من أجل تفّاحة
حطَّ بهذا العالم الأجْرَدْ
يحملُ مشاهدَ قديمةً
عن الفردوس الذي في السماء
وبقايا معجزاتٍ
بالأبيضِ والأسوَدْ.”
بين البورصة وإفلاس المشاعر
هل هناك علاقة بين كل ما تعرفه الحياة الإنسانية والمشاعر من سوء بسلطة المال؟ تلك السلطة التي تتدخّل في أغلب جوانب حياتنا شئنا ذلك أم رفضنا… في قصيدة “بعيدا عن مسرح البورصة” نجد العالم بشكل مصغر. نرى كيف أن للمظاهر، لا يهمّ إن كانت مزيفة، قيمة تفوق وتعلو على المشاعر والأمور الإنسانية… كيف يعامل المشرّدون واللاجئون والفقراء عموما بشكل خال من أي إحساس نبيل. في عالم المال، تصبح الرغبات الإنسانية شيئا قابلا للمتاجرة. حتى الأطفال، أحلامهم وأمورهم في يد رؤوس الأموال ومنطق البيع والشراء. في عالم المال، يُحارب من يحاول جاهدا تصحيح التوزيع لأجل الاحتياجات الأساسية، من قبل من سلبه حتى القدرة على الحلم.
“البورصةُ مسرحٌ حيٌّ
والمدرَّجُ مأهولٌ بالممثّلين”
وهكذا، فإن الأشخاص والاحتياجات والمشاعر أصبحت كلها “لعبة” في يد البورصة. والبورصة، التي هي أيضا ساحة معلومة في مركز العاصمة البلجيكية حيث يقيم الشاعر، تصبح مسرحا لمساءلة العولمة الاقتصادية التي تعصف بالمشاعر والقيم الإنسانية:
“البورصة
قلبُ المدينة الحجريّ
كشكٌ يبيع يانصيب الخسارة للحشود
كازينو الإفلاس المعَوْلَم”.
بين الحبّ والوطن
وأخيرا، هل هناك علاقة بين قصائد الحب، والقصائد التي تتحدث عن مآسي الوطن والمجتمع؟ فلنبدأ بالقصيدة التي أهدت عنوانها للديوان:
“لقطْتُ بأصابعَ راعشةٍ
جهاز التحكّم مِنْ بُعْدٍ
وَأطفأتُ الثورة
لتُرفرف بسمَتُكِ
في خيالي
فأنضوي
مُسَرْنَمًا
تحت لوائِكِ
أنتِ رايتي
وثورتي
وَأنا
شعبُكِ العاشق
زعيمُكِ المفَدَّى”
نلاحظ هنا نوعا من الإحساس بالانتماء إلى المحبوبة. لكن، أيضا، ولأن القصيدة تتحدث عن قضية وطنية تحيلنا إليها عبارة “العلم الوطني” وعبارات أخرى تحيل على أجواء “الربيع العربي” بكل تطاحناته، نفهم أيضا أنها تعبر عن المواساة. عن شعور بالخوف على المحبوب الذي تصير بسمته مصدر اطمئنان وفرح… فحين يكون المرء عاشقا، يحب أن يرى بسمة محبوبه، ولو في صورة. يساعده ذلك على الإحساس أكثر بالأمان:
“بسمَتُكِ
أمانُ الله
مستقِرًّا
في فؤادي
بسمَتُكِ
يا خفقة القلبِ
أسمى
من كل البيارق
أحلى
من العلم الوطني.”
وكأنّ القول الشعري هنا يحاول الاندماج مع المحبوبة عن طريق تبنّي الأمور والمواضيع بطريقة ذاتية تؤكد على عفوية المشاعر الإنسانية في عالم مليء بالتضليل تغطّيه التكتيكات السياسية والاقتصادية والإسقاطات الجمعية. فالتعبير الصادق أحلى من “خِرْقة خَلِقة” يحتشد حولها الناس على أنّها راية أو بيرق يقودهم إلى ما لا يدري أحد… وهو يدعونا إلى أن نعطي الولاء للمشاعر الإنسانية الصادقة، للحب. وألا نكون مجرد لعبة بين أيدي خطابات سياسية مليئة بالتضليل. إذ نجد في هذه القصيدة عدة مشاعر وأفكار… فيها من الحب والدعوة إلى سيادة المشاعر الإنسانية مثل ما فيها من الدعوة إلى حبّ الوطن، لكن، دون السقوط في ترديد الشعارات المسكوكة وكأننا مجرد “كومبارس”.
لكن، ألا توحي عبارة “بسمتك” وصيغة التفضيل في “أحلى” إلى نوع من الرغبة والاحتياج في “لغة” جسدية إيجابية؟ ألسنا نحتاج إلى تعبيرات جسدية من الأخر تشعرنا بنوع من الفرح والارتياح وحتى الانتماء؟
بين الوجه والقناع
من المعروف أن لحركات الجسد وحتى مظهره لغة يتمّ عبرها التواصل، وخصوصا الوجه وتعبيراته وملامحه. إذ أنه هو الجزء الأكثر بروزا لدى الإنسان. والأكثر أهمية. فعبره نستطيع معرفة الآخر. ليس فقط تمييزه عن البقية، لكن، أيضا، الإحساس به… فتعبيرات الوجه، تمكّننا من معرفة مدى انسجامه وتصديقه وتجاوبه وانفعالاته تجاهنا. إذ غالبا ما يتركز النظر أثناء الحديث على الوجه، الذي يعبّر بإيماءات لا إرادية وحركات غير مقصودة عن جوهرنا. إن الوجه هوية، وهو ما تلتقطه العين وما تحتفظ به الذاكرة.
ثم، ألسنا أحيانا كثيرة ننزعج من وجوهنا حين تفضح مشاعرنا، أو حين تعبر عن حالاتنا النفسية والجسدية… وحتى عندما تتأثر بالخارج الذي قد لا يعنينا. جاء في قصيدة “على سبيل الابتهال”:
” لماذا أرْتَعِبُ الآن
مِنْ وجهي:
قِناعي الأليفُ السّمْحُ
أنْتَ فاطِرُهُ إلهي
فَلِماذا كلّما عَبَسْتُ
أبْلَيْتُه
وابْتَأسْتُ؟
(…)
أريدُ أن أبقى
بشوشًا
كما خلقْتَني
أوّل مرة”
الحاجة إلى البهجة والفرح عبر أسارير الوجه يعكس سأما من الوجه الذي يصيب بالفزع والارتعاب في لحظات القلق والعبوس. ربما هي لحظات عزلة يمكن تلافيها باللقاء مع الآخرين… الأصدقاء مثلا؟ لكن، هل لازال الناس يفهمون أن الصداقة تعني قبل كل شيء احترام اختلاف مشاعر وأفكار الآخر؟ وأين المفر ممن يفرض علينا أفكاره وتوجهاته؟ من يظن أن مشاعرنا وأحاسيسنا رهن إشارة الآخر في كل وقت ومكان. كما جاء في نفس القصيدة:
“وَلا تَنْسَ أصدقائي
-سُعاةَ الشّؤم مِنْهم –
يتعهّدون كَدَري
بالدّواهي
والأخبار السوداءْ
يَذْكُرونَني
متى حَلّتْ
في أقصى الأرْضِ
نائِبَةٌ
وَيُحوِّلون حائطي الفيسبوكَ
إلى مَبْكى
ضاربين في ظلّه
خيامَ العَزاءْ
يرْجُمون رَوِيّتي
بِنَقَراتٍ مُسْتَعِرَةٍ
وَبِالعويل يُجْهِشون”
وكأن الأمور تتمّ بكبسة زرّ. فالناس بعد أن تعوّدوا على الحياة “إلكترونيا” وتعديل ما يرغبون فيه أو ينفرون منه إلكترونيا أصبحوا يتعاملون مع الآخر إلكترونيا أيضا، يفرضون عليه انفعالاتهم ومواقفهم وأفكارهم… بمنطق التبادل التجاري حسب منطق الربح والخسارة، يصنفون الناس ويفرضون عليهم أحاسيس وانتماءات وينخرطون معهم في مزايدات فيما يشبه الابتزاز العاطفي. وكما يحلل ذلك إيريش فروم: “نمو النظام الصناعي الحديث، أفضى إلى مزيد ومزيد من الإنتاج وزيادة في توجه المستهلك. فقد أصبح الإنسان جامعا ومستخدما. وأصبحت تجربة حياته المركزية، أكثر فأكثر، أنا أملك وأنا أستخدم. وأقل فأقل أنا أكون” مما أدى إلى تفكّك الروابط والعلاقات الاجتماعية، وأصبح الإنسان العصري يعيش وحيدا قلقا. بتحوّله إلى مجرد “ذرة” أو رقم. و يؤكد إيريش فروم: “عندما يصبح الإنسان شيئا يموت، حتى إن كان -مرئيا- لا يزال حيا. وإن كان المرء ميتا روحيا. عندئذ لا يغدو فقط خاضعا للتآكل، بل يصبح خطيرا، خطيرا على نفسه وعلى الآخرين.”
باحثة عراقية تقيم في المغرب | كيكا