لا يبدو الربط بين الإبداع الشعري والرياضي ضرباً من المبالغة. فإحدى العلاقات الوثيقة بينهما هي إنتاج الجمال، وإحدى العلاقات الأخرى هي البيولوجيا.
لقد كتب الشعراء اليونانيون القدامى أناشيد النصر لتخليد إنجازات الرياضيين. يعكس هذا التقليد فهماً جميلاً للتوازي بين الإبداع الجسدي والإبداع الأدبي. فكما أن الرياضي يسعى لتحقيق الكمال في حركاته، يسعى الشاعر لتحقيق الكمال في كلماته. إن الإبداع الرياضي في جوهره، هو لغة الجسد في أرقى صورها. حين نشاهد لاعبة كرة طائرة تقفز بخفة لتسدد ضربة ساحقة، أو عداءً يندفع نحو خط النهاية بسرعة مذهلة، فإننا نشهد قصيدة حركية. هذه اللحظات من الأداء المثالي تثير فينا الإحساس بالجمال والدهشة ذاتها التي نختبره عند قراءة بيت شعر جميل. كلا النوعين من الإبداع، الرياضي والشعري، يعتمدان على الإيقاع والتناغم. نجد هذا في الشعر في الوزن والقافية. ونجده في الرياضة في تناسق الحركات ومرونتها. وهذا ما يحقق الانسجام الكامل بين الشكل والمضمون.
نحن أمام مشهد فريد في الألعاب الأولمبية حيث يتجلى الجمال في أشكال متعددة. أجساد الرياضيين المصقولة بسنوات من التدريب، تعبر عن المثال الأفلاطوني للجمال. ولكن هذا الجمال لا يقتصر على المظهر الخارجي فحسب. إنه يتجلى أيضًا في الحركة والأداء والمهارة والإتقان ، تمامًا كما يتجلى جمال القصيدة في اختيار الكلمات وترتيبها وإيقاعها. كما أن التنوع الذي نراه في الأولمبياد ، في الأجساد و الحركات والأساليب ، يوازي التنوع الذي نجده في الأشكال والأساليب الشعرية. كأنّ كل رياضي هو شاعر، يقدم رؤيته الخاصة للجمال والكمال.
وفي عصرنا الحالي ذي التقاطعيات، حيث تتداخل الثقافات والفنون، نجد أن تذوق الإبداع الرياضي يشبه كثيرًا تذوق الشعر. يحتاج الأمر إلى حساسية مرهفة، وقدرة على إدراك ما وراء المشهد. وهكذا فإن المشاهد الذي يستطيع تقدير جمال حركة رياضية معقدة هو في الواقع يمارس ذات المهارات التي يستخدمها قارئ الشعر لتذوق قصيدة متقنة.
ليس الأولمبياد بهذا المعنى، مجرد منافسة رياضية، بل هو أيضًا مهرجان للجمال والإبداع. إنه يدعونا لإعادة النظر في مفاهيمنا عن الجمال، وتوسيع آفاق تذوقنا ليشمل الإبداع بكل أشكاله، سواء كان ذلك في حركة رياضي ماهر أو في بيت شعر رائع.
نحب في سياق فهمنا للجمال والإبداع في الألعاب الأولمبية، أن نتطرق إلى البعد البيولوجي لهذه الظواهر. فالجمال، في جوهره، هو أيضًا منتج بيولوجي، مرتبط بتطورنا كجنس بشري.
وقد أشار الناقد حنا عبود في كتابه “القصيدة والجسد” إلى دور الغدد الصم وهرموناتها في توجيه الإنسان نحو صنف من الآداب والفنون أو المشاعر. فبسبب الهرمونات تظهر الموهبة الشعرية في سن المراهقة، ويتمرد الكثير من الشعراء على ثقافة البيئة السائدة.
إن الهرمونات الجنسية، على وجه الخصوص، تقوم بدور محوري في تشكيل ما نراه جميلًا وفي تحفيز الإبداع، سواء كان رياضيًا أو أدبيًا. التستوستيرون، على سبيل المثال، لا يساهم فقط في بناء العضلات وزيادة القوة البدنية للرياضيين، بل له أيضًا تأثير على الإبداع والمخاطرة الفكرية وتوليد الأفكار الجديدة. هذا قد يفسر جزئيًا الاندفاع الإبداعي الذي نراه غالبًا في مرحلة الشباب، سواء في الميدان الرياضي أو الأدبي. من جانب آخر يقوم هرمون الأستروجين، بدور في تنظيم المزاج والعواطف، مما قد يؤثر على القدرة على التعبير العاطفي في الأدب والرياضة على حد سواء. كما تؤثر التقلبات الهرمونية على المزاج الإبداعي، سواء كان ذلك في كتابة قصيدة أو في أداء حركة رياضية معقدة.
إن هذا الارتباط البيولوجي يضيف بعدًا جديدًا لمفهوم الجمال في الألعاب الأولمبية. فعندما نشاهد رياضيًا في قمة أدائه، أو نقرأ قصيدة مؤثرة، فإننا في الواقع نشهد نتاج تفاعل معقد بين البيولوجيا والثقافة. الجسم الرياضي المثالي، بكل ما يحمله من جمال وقوة، هو في جزء منه نتيجة لتوازن هرموني دقيق. وبالمثل، فإن الإبداع الشعري، بكل ما فيه من عاطفة وخيال، قد يتأثر بالتغيرات الهرمونية التي يمر بها الشاعر.
رغم ذلك من المهم أن نتذكر أن الإبداع ، سواء كان رياضيًا أو أدبيًا ، لا يمكن اختزاله في مجرد عمليات بيولوجية. فهو نتاج تفاعل معقد بين البيولوجيا والخبرة والثقافة والتدريب. قد تهيئ الهرمونات أساس الإبداع، ولكن التعبير النهائي عن هذا الإبداع يتشكل من خلال الممارسة والتعلم والتجربة الشخصية.
ثمة مخاطرة في هذه المقالة وهي تأكيد مقولة ارتباط الجمال بالكمال الجسدي. وهذا الارتباط له جذور عميقة في التاريخ والثقافة والبيولوجيا. فقد صوّر الفن الكلاسيكي غالباً صور الآلهة والأبطال بأجسام مثالية، مما عزز الارتباط بين الكمال الجسدي والجمال. كما أنه من الشائع أن يُنظر إلى الكمال الجسدي كمؤشر على الصحة والقدرة على التكاثر، مما يجعله جذاباً بيولوجياً. كما أن السمات الجسدية المرتبطة بالصحة والقوة (مثل التناسق، القوام المستقيم، البشرة النضرة) تُدرك عادة على أنها جميلة. إن الألعاب الأولمبية تقدم نموذجاً للكمال الجسدي في سياق الأداء الرياضي، مما يربط بين الجمال والوظيفة ، وهذا ما تركز عليه وسائل الإعلام والإعلانات كمعيار للجمال. غير أن هناك معارضة شديدة فلسفية لذلك، تركز على فضح طرق تسييس الجسد وإخضاعه لمعايير جمالية محددة، أو تجادل أن معايير الجمال التقليدية هي أداة للسيطرة الاجتماعية على النساء، ومنها ما يركز على مفهوم الاخلاق والقيم الإنسانية.
إن مفهوم الجمال أوسع وأكثر تعقيداً من مجرد الكمال الجسدي. الجمال يمكن أن يوجد في التنوع والفرادة، وفي جوانب تتجاوز المظهر الخارجي. ويجب توسيع فهمنا للجمال ليشمل مجموعة أوسع من التعبيرات الجسدية والروحية. مثل الجمال الفكري، كالذكاء والقدرة على التفكير النقدي والإبداع وخصوبة الخيال. وكالجمال الروحي، وجمال الاتقان، والجمال الاجتماعي والجمال العاطفي والجمال الفني قبل كل ذلك.
مجلة قلم رصاص الثقافية