س: أرغب بتلخيص شامل للفيلم الوثائقي (The Social Dilemma) الموجود في نيتفليكس. معضلة وسائل التواصل الاجتماعي.
ج: الفيلم الوثائقي The Social Dilemma (2020) للمخرج جيف أورلوفسكي يناقش التأثيرات الخطيرة لوسائل التواصل الاجتماعي على الأفراد والمجتمعات، مستندًا إلى شهادات خبراء التكنولوجيا السابقين في شركات كبرى مثل “Google” و “Facebook” و”Twitter”؛ يركز الفيلم على قضايا محورية مثل رأسمالية المراقبة، الإدمان، الصحة النفسية، نشر الأخبار المزيفة، وتقنيات الإقناع.
تقوم رأسمالية المراقبة على استغلال البيانات الشخصية لزيادة الأرباح عبر الإعلانات المستهدفة، حيث يُباع انتباه المستخدمين كمنتج رئيسي. في الوقت نفسه، يُصمّم الإدمان على وسائل التواصل بعناية باستخدام تقنيات نفسية مستوحاة من ماكينات القمار لتعزيز السلوكيات الإدمانية، مما يُطيل زمن استخدام المنصات.
وسائل التواصل تُظهر أيضاً تأثيرًا عميقًا على الصحة النفسية، خاصة بين المراهقين، مع ارتفاع معدلات الاكتئاب والانتحار، لاسيما بين الفتيات، نتيجة الضغوط الاجتماعية والتوقعات غير الواقعية. كما تُسهم الخوارزميات في نشر الأخبار المزيفة وتعزيز الاستقطاب السياسي عبر استغلال أنماط اهتمام المستخدمين لتغيير السلوكيات دون وعي.
تقنيات الإقناع تعتمد على “الهندسة النفسية”، حيث تُختبر ميزات صغيرة باستمرار لتحقيق أقصى درجات التفاعل. يوضح الخبراء أن هذه الأنظمة ليست شريرة بحد ذاتها، لكنها تستغل نقاط الضعف البشرية. من أبرز التصريحات في الفيلم:
- “إذا كنت لا تدفع مقابل المنتج، فأنت المنتج.” (تريستان هاريس)
- “وسائل التواصل ليست أدوات حيادية، بل تمتلك أهدافًا خاصة تسعى لتحقيقها عبر استغلالك.”
يكشف الفيلم كيف تُستخدم خوارزميات وسائل التواصل لزيادة التوتر والعدوانية عبر تقديم محتوى يثير مشاعر قوية كالغضب أو الحزن. تُعزز هذه الخوارزميات الاستقطاب من خلال “غرف الصدى”، حيث يتعرض المستخدمون فقط لمحتوى يدعم قناعاتهم، مما يزيد التعصب والصدام عند مواجهة أفكار معارضة.
آليات التحفيز النفسي، مثل الإشعارات والتنبيهات، تُستخدم لجذب الانتباه وخلق إدمان سلوكي عبر تفاعلات سطحية كالإعجابات والتعليقات، مما يؤدي إلى حلقة مفرغة من الإدمان والتوتر. كما يُعزز هذا التلاعب المقارنات الاجتماعية التي تُبرز “حياة مثالية”، مما يفاقم مشاعر النقص وعدم الرضا.
س: من هم الخبراء في الفيلم الوثائقي الذين تحدثوا عن القضية السابقة، ما هي وظائفهم؟ وما هي شهاداتهم؟
ج: في وثائقي The Social Dilemma، قدّم خبراء من خلفيات تقنية وأكاديمية شهاداتهم حول تأثير وسائل التواصل الاجتماعي على السلوك الإنساني والمجتمعات. وفيما يلي أبرز آرائهم مع توضيح وظائفهم وخلفياتهم:
- تريستان هاريس (Tristan Harris):
- الوظيفة: خبير أخلاقيات التصميم ومؤسس مشارك لمركز التكنولوجيا الإنسانية (Center for Humane Technology).
- الخلفية: عمل مهندس تصميم أخلاقي في Google، حيث ركز على تصميم تقنيات مسؤولة.
- رأيه: “وسائل التواصل الاجتماعي ليست أدوات محايدة، بل هي محركات ذكاء اصطناعي مصممة لاستغلال نقاط الضعف البشرية”. أشار إلى أن الخوارزميات تُعيد هندسة السلوك الإنساني دون وعي المستخدم، مما يؤدي إلى زيادة الغضب والانقسام.
- شوشانا زوبوف (Shoshana Zuboff):
- الوظيفة: أستاذة فخرية في كلية هارفارد للأعمال ومؤلفة كتاب “عصر رأسمالية المراقبة”.
- الخلفية: باحثة متخصصة في تأثير التكنولوجيا على المجتمعات والاقتصاد.
- رأيها: وصفت وسائل التواصل بأنها صناعة “رأسمالية مراقبة”، حيث تُباع بيانات وسلوك المستخدمين المستقبلية كمنتج تجاري. وأكدت أن إثارة الغضب والانفعالات هي أدوات أساسية لجذب المستخدمين وتعزيز الاستقطاب المجتمعي.
- أزا راسكين (Aza Raskin):
- الوظيفة: مبتكر تقني ومؤسس مشارك لمركز التكنولوجيا الإنسانية.
- الخلفية: عمل سابقًا في Mozilla Labs، وابتكر واجهة التمرير اللانهائي (Infinite Scroll).
- رأيه: “الخوارزميات لا تبيع البيانات فقط، بل تبيع القدرة على تغيير السلوك تدريجيًا”. أوضح أن المنصات تستغل احتياجات الإنسان النفسية، مثل الحاجة للقبول والانتماء، لتعزيز الإدمان.
- جوستين روزنشتاين (Justin Rosenstein):
- الوظيفة: مهندس تقني سابق ومستشار في Google وFacebook
- الخلفية: شارك في اختراع زر “الإعجاب” (Like) على Facebook.
- رأيه: أعرب عن ندمه على اختراع زر الإعجاب، قائلًا: “كان الهدف نشر الإيجابية، لكنه تحول إلى وسيلة تُستخدم لتعزيز المقارنة الاجتماعية والتوتر”.
- جوناثان هايدت (Jonathan Haidt):
- الوظيفة: أستاذ علم النفس الاجتماعي بجامعة نيويورك.
- الخلفية: باحث متخصص في الصحة النفسية وتأثير وسائل التواصل الاجتماعي على الشباب.
- رأيه: ” الضغط المستمر للحصول على إعجابات والتعرض للنقد يجعل الشباب أكثر هشاشة”. أشار إلى أن وسائل التواصل مسؤولة عن ارتفاع معدلات القلق والاكتئاب بين المراهقين.
- تشامات باليهابيتيا (Chamath Palihapitiya):
- الوظيفة: رئيس سابق لنمو المستخدمين في Facebook ومستثمر في شركات تقنية.
- الخلفية: ساهم في تطوير استراتيجيات نمو منصات التواصل الاجتماعي.
- رأيه: “نحن نخلق أنظمة تدفع الناس إلى الكراهية والانقسام لتحقيق الأرباح. هذه الأدوات صُممت لتكون إدمانية بشكل متعمد”.
- غيوم شاسلو (Guillaume Chaslot):
- الوظيفة: مهندس برمجيات سابق في YouTube.
- الخلفية: عمل على تطوير خوارزميات توصيات الفيديو في YouTube.
- رأيه: “الخوارزميات تعزز المحتوى المتطرف لأنه يجذب الانتباه ويبقي المستخدمين لفترة أطول”.
س: ما هو دور وسائل التواصل الاجتماعي في التلاعب الديمقراطية والحرية عبر العالم؟
ج: وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت أداة تُعيد تشكيل الخطاب العام وتؤثر على صنع القرار السياسي، مما يؤدي إلى تفتيت المجتمعات وتآكل المبادئ الديمقراطية. في وثائقي The Social Dilemma، ناقش الخبراء كيف تُوظف هذه المنصات لتحقيق أرباح بطرق تضر بالحرية والديمقراطية، من خلال عدة ممارسات أبرزها نشر الأخبار المزيفة وتضليل الرأي العام. تعتمد خوارزميات المنصات على عرض المحتوى الجاذب بغض النظر عن صحته، مما يجعل الأخبار المزيفة تنتشر أسرع من الحقائق لأنها تثير مشاعر قوية كالخوف والغضب، كما حدث خلال الانتخابات الأمريكية عام 2016 مع انتشار نظريات مؤامرة مثل “بيتزا غيت”. هذا التضليل يُضعف قدرة المواطنين على اتخاذ قرارات سياسية واعية، ويُعزز الاستقطاب السياسي.
تركز الخوارزميات على تخصيص المحتوى بناءً على بيانات المستخدمين، مما يُنشئ “غرف صدى” تُعرض فيها آراء متشابهة فقط، وهو ما يُعزز التطرف ويزيد من حدة الاستقطاب السياسي، مما يُصعب الوصول إلى توافق. بالإضافة إلى ذلك، تُستخدم وسائل التواصل للتلاعب بالناخبين عبر حملات مستهدفة تعتمد على بياناتهم النفسية، كما كشفت فضيحة Cambridge Analytica، حيث استُخدمت بيانات الملايين لتوجيه إعلانات سياسية خلال استفتاء خروج بريطانيا والانتخابات الأمريكية، مما أضعف نزاهة العملية الديمقراطية.
تساهم هذه المنصات أيضًا في نشر خطاب الكراهية وصعود الجماعات المتطرفة، حيث تعزز الخوارزميات المحتوى الذي يثير تفاعلًا قويًا، مما أدى إلى استخدامها كوسيلة لتجنيد الأفراد ونشر دعايات الجماعات المتطرفة. أظهرت دراسات دورها في تأجيج العنف السياسي في الهند والولايات المتحدة. ومن جهة أخرى، رغم ادعائها دعم حرية التعبير، تعتمد المنصات على رقابة غير شفافة تحدد المحتوى المعروض، مما يؤدي إلى إسكات الأصوات المعارضة واستغلال سلوك المستخدمين لتحقيق الأرباح.
هذا الوضع يُضعف ثقة الأفراد بالمؤسسات الديمقراطية، حيث تُعزز الأخبار المزيفة ونظريات المؤامرة شعورًا عامًا بفقدان الثقة بوسائل الإعلام التقليدية والحكومات، كما حدث خلال انتخابات البرازيل عام 2018 مع انتشار الشائعات عبر WhatsApp. علاوة على ذلك، تركز هذه المنصات على الفئات الأكثر عرضة للتلاعب، مثل الشباب وأصحاب التعليم المحدود، لاستغلالهم في حملات دعائية تؤثر على قراراتهم السياسية والاجتماعية.
النتائج الكارثية لهذه الظواهر على الديمقراطية متعددة، منها تفكيك النسيج الاجتماعي عبر تعميق الانقسامات والعدائية تجاه الآراء المختلفة، والتلاعب الجماعي الذي يُضعف التفكير النقدي والقدرة على اتخاذ قرارات حرة، فضلًا عن تعزيز الاستبداد من خلال استخدام المنصات في مراقبة المواطنين وقمع المعارضة.
س: ما رأيك، حسب ذلك الوثائقي، هل يمكن تفسير تدهور الصداقات الفعلية بين المستخدمين، الذين سبق وأن عرفوا بعضهم لسنوات طويلة قبل وسائل التواصل؟ وان كان ذلك صحيحاً، فهل هي ظاهرة عالمية؟
ج: حسب وثائقي The Social Dilemma، يمكن تفسير تدهور الصداقات الواقعية بين المستخدمين الذين عرفوا بعضهم قبل ظهور وسائل التواصل الاجتماعي من خلال عدة عوامل متداخلة، أبرزها تأثير الخوارزميات على التفاعل الإنساني وتغير طبيعة التواصل بين الأفراد. تُمنح منصات التواصل شعورًا زائفًا بالاتصال الاجتماعي، حيث تستبدل العلاقات العميقة بالتفاعلات السطحية مثل الإعجابات والتعليقات، مما يؤدي إلى تآكل الأبعاد العاطفية التي تُبنى عليها الصداقات الفعلية.
تلعب الخوارزميات دورًا كبيرًا في تعزيز الاختلافات بين الأصدقاء من خلال عرض محتوى يعكس اهتمامات كل مستخدم بشكل فردي، مما يُضعف التجارب المشتركة ويؤدي أحيانًا إلى نشوء نزاعات نتيجة تغيّر التوجهات أو الآراء. هذه الظاهرة تُعرف بـ”غرف الصدى”، حيث يجد المستخدم نفسه محاطًا بآراء تعزز قناعاته، وهو ما يُقوض قدرة الأصدقاء على تفهم وجهات نظر بعضهم البعض.
إلى جانب ذلك، يُسهم الاستخدام المكثف لوسائل التواصل في تقليل الوقت المخصص للعلاقات الواقعية. بدلاً من اللقاءات الشخصية أو المكالمات، يقضي المستخدمون ساعات طويلة في التفاعل مع محتوى افتراضي أو تحديث حساباتهم، مما يُضعف الروابط الحقيقية مع الأصدقاء. علاوة على ذلك، تعزز وسائل التواصل المقارنة الاجتماعية بين الأصدقاء من خلال تسليط الضوء على الإنجازات أو الصور الشخصية المثالية، مما يولّد مشاعر الغيرة أو الإحباط. وفقًا للوثائقي، هذه السلوكيات تزيد من الضغط الاجتماعي وتُضعف الثقة المتبادلة بين الأصدقاء، خاصة بين الشباب.
يُبرز الوثائقي أن تدهور العلاقات الواقعية نتيجة وسائل التواصل يُعد ظاهرة عالمية ذات تأثير واسع النطاق. تعمل الخوارزميات على تقليص الفهم المشترك بين الأصدقاء من خلال خلق عوالم افتراضية منفصلة لكل مستخدم، مما يزيد من معدلات الوحدة والعزلة. أبحاث علمية ناقشها الوثائقي أشارت إلى تفاقم هذه المشكلة بين الشباب والمراهقين، مما يدعم فكرة أن العلاقات الافتراضية باتت تُهدد الصداقات الحقيقية.
س: هل اقترح الخبراء حلولاً لمواجهة تلك المشكلات المتنوعة؟
ج: في وثائقي The Social Dilemma، ناقش الخبراء حلولًا متعددة للتصدي للمشكلات التي نتجت عن وسائل التواصل الاجتماعي، مثل تدهور العلاقات، الاستقطاب السياسي، والإدمان الرقمي. هذه الحلول تنقسم إلى إجراءات فردية وعائلية ومجتمعية، بالإضافة إلى تنظيمات سياسية وتقنية وجهود عالمية.
على المستوى الفردي، يمكن مواجهة التأثير السلبي لوسائل التواصل من خلال تحسين وعي المستخدمين بآليات عمل الخوارزميات التي تستهدف جذب انتباههم، وتقليل الاعتماد على هذه الوسائل عبر تحديد وقت الاستخدام أو استخدام تطبيقات للمراقبة الذاتية. كما يُنصح بإعادة بناء العلاقات الواقعية من خلال تعزيز التفاعل الشخصي والانخراط في أنشطة اجتماعية حقيقية. أشار “جاران لانيير” إلى خيار جذري يقترح فيه: “احذف حسابات وسائل التواصل الاجتماعي لتستعيد حريتك”، وهو حل فعال لمن يعانون من إدمان شديد.
أما على الصعيد العائلي، فإن إدارة استخدام الأطفال للتكنولوجيا تتطلب وضع قواعد واضحة مثل تخصيص أوقات خالية من الأجهزة الإلكترونية، وتعليمهم مخاطر الإنترنت، وتشجيع التواصل المفتوح لفهم تأثير هذه الوسائل على صحتهم النفسية والجسدية.
على المستوى المجتمعي، تبرز أهمية نشر الوعي الجماعي بمخاطر وسائل التواصل، من خلال تعزيز التعليم الرقمي في المدارس، وتنظيم حملات توعية لتوضيح تأثير الخوارزميات وأهمية التفكير النقدي، إلى جانب تقليل الاعتماد على هذه الوسائل لصالح الأنشطة التقليدية المباشرة.
فيما يتعلق بالحلول التنظيمية والسياسية، أوصى الوثائقي بضرورة فرض قوانين شفافة تُلزم الشركات بالإفصاح عن كيفية عمل خوارزمياتها ومنع استغلال بيانات المستخدمين للتلاعب النفسي أو الاستهداف الإعلاني المكثف. كما دعا إلى تحسين سياسات مكافحة الأخبار المزيفة وخطاب الكراهية، وتشجيع الشركات على تبني “التصميم الأخلاقي” الذي يركز على تحسين تجربة المستخدم بدلًا من تعزيز الإدمان.
تقنيًا، أكد الخبراء ضرورة تطوير خوارزميات أكثر شفافية تهدف إلى تعزيز المحتوى الهادف، وتمكين المستخدمين من التحكم في نوعية المحتوى الذي يظهر لهم، وتشجيع إنشاء منصات بديلة تعتمد على مبادئ أخلاقية. بالإضافة إلى ذلك، اقترحوا تطوير أدوات تحكم شخصية لتقليل الاستهداف الإعلاني وضمان حماية خصوصية المستخدمين.
على المستوى العالمي، دعا الوثائقي إلى تعاون الحكومات والمؤسسات الدولية لوضع معايير تنظّم وسائل التواصل وتواجه التحديات مثل الأخبار المزيفة وخطاب الكراهية. كما شدد على أهمية حماية المجتمعات المستضعفة، خاصة الأطفال والشباب، من التأثيرات النفسية السلبية.
أبرز الخبراء المشاركين في الوثائقي أكدوا أهمية هذه الحلول. تريستان هاريس طرح سؤالًا جوهريًا: “ما نوع العالم الذي نريده؟ وكيف يمكن للتكنولوجيا أن تساعدنا في بنائه بدلًا من تدميره؟” بينما أوضحت شوشانا زوبوف أن “وسائل التواصل يجب أن تصبح موضوعًا عامًا يخضع للمساءلة.” وأضاف جاران لانيير: “مغادرة وسائل التواصل الاجتماعي ليس مجرد خيار فردي، بل حركة جماعية قد تغير طبيعة هذه الصناعة.”
س: يبدو أن الهدف الرئيسي لوسائل التواصل الاجتماعي هو الربح كما يشير الوثائقي، فهل تشرح هذه الآلية بالتفصيل؟
ج: يُسلط الوثائقي الضوء على كيف تستغل وسائل التواصل الاجتماعي بيانات المستخدمين لتحقيق الأرباح عبر نموذج “رأسمالية المراقبة” (Surveillance Capitalism). في هذا النموذج، تُجمع بيانات سلوكيات المستخدمين مثل المحتوى الذي يشاهدونه والوقت الذي يقضونه على المنشورات، ثم تُستخدم هذه البيانات للإعلانات المستهدفة. كما يُقال: “إذا كنت لا تدفع ثمن المنتج، فأنت المنتج”، حيث تقدم المنصات خدمات مجانية، بينما العملاء الحقيقيون هم المعلنون الذين يشترون هذه البيانات.
وسائل التواصل الاجتماعي تعتمد على “اقتصاد الانتباه”، حيث تهدف الخوارزميات إلى إبقاء المستخدمين متصلين لأطول فترة ممكنة. تستخدم تقنيات مثل الإشعارات المستمرة والتصفح اللا نهائي لتشجيع التفاعل، مما يزيد من أرباح المنصة. وغالبًا ما يتم عرض المحتوى المثير للجدل أو العاطفي، مما يؤدي إلى تفاعل أكبر من المستخدمين.
الإعلانات المستهدفة تسعى لتغيير سلوك المستخدم، ليس فقط من خلال بيع منتجات، بل أيضًا بتوجيه المستخدمين نحو أفكار أو معتقدات معينة. هذه الإعلانات تؤثر على سلوك المستخدمين وتزيد من الإدمان الرقمي. يقول شوشانا زوبوف: “المنصات لا تهتم بالمحتوى إيجابيًا كان أو سلبيًا؛ كل ما يهم هو أن تبقى متصلاً.”
الخبراء مثل “جاران لانيير وتشامات باليهابيتيا” انتقدوا هذا النموذج، مشيرين إلى أن الشركات التقنية تدرك الأضرار التي تسببه للمجتمع لكنها تواصل العمل به لأن الأرباح أهم. هذا النظام يطرح تحديات اجتماعية وأخلاقية، ويتطلب مواجهات من الأفراد والمجتمعات للحفاظ على توازن صحي في استخدام وسائل التواصل.
س: تحدث الوثائقي عن أن وسائل التواصل الاجتماعي ليست أداة بالمفهوم الفلسفي للأداة. فالدراجة أداة، لأنك تستخدمها سنوات للركوب دون أن تحاول فرض أي شروط عليك أو تقوم بالتأثير فيك. بينما تقوم بذلك وسائل التواصل، هي ليست أداة لأنها قد تقلب حياتك رأساً على عقب.
هل يمكنك اعتماداً على هذه الفكرة اقتراح تسمية مناسبة غير تقليدية ومعبرة لوسائل التواصل الاجتماعي؟
ج: الفيلم الوثائقي The Social Dilemma يبرز أن وسائل التواصل الاجتماعي ليست “أداة” محايدة، بل نظام ديناميكي صُمم للتفاعل مع المستخدمين وتغيير سلوكياتهم وقراراتهم بشكل خفي. بخلاف الأدوات التقليدية، مثل المطرقة أو الدراجة، التي تُستخدم لتحقيق هدف محدد دون تدخل إضافي، فإن وسائل التواصل تُلاحق المستخدمين عبر إشعارات ومحتوى مُعد لجذب الانتباه. تعتمد هذه الأنظمة على خوارزميات تستغل نقاط الضعف النفسية، مثل الخوف من تفويت شيء مهم (FOMO)، لإبقاء المستخدمين متصلين أطول وقت ممكن. كما يشير تريستان هاريس، “إذا كانت التكنولوجيا تُحاول التأثير عليك لتحقيق أهدافها، فهي ليست أداة، بل نظام ذو أهداف خاصة.”
هذه المنصات ليست مجرد وسائل تواصل؛ بل أنظمة مراقبة وتوجيه تؤثر على حياة المستخدمين بطرق عميقة وغير متوقعة، من خلال تشكيل تصوراتهم للعالم وتوجيه قراراتهم، سواء كانت سياسية أو اجتماعية.
اقتراحي بتسميات بديلة هو:
1-منصات التلاعب الاجتماعي (Social Manipulation Platforms)
- التبرير: تصف بدقة الطريقة التي تُصمم بها هذه المنصات لتشكيل سلوكيات المستخدمين ومعتقداتهم بطرق خفية، مستغلة البيانات الشخصية لتعزيز الأرباح أو التوجهات السياسية.
2- مصانع الانتباه الرقمي (Digital Attention Factories)
- التبرير: تُبرز أن هدف هذه المنصات الأساسي هو تحويل انتباه المستخدمين إلى منتج يُباع للمعلنين، مما يعكس طبيعتها الربحية وأسلوبها الاستغلالي.
3- شبكات التوجيه الخفي (Hidden Guidance Networks)
- التبرير: تشير إلى الأساليب الغير مرئية التي تُستخدم لتوجيه اختيارات المستخدمين ومواقفهم، مما يؤدي إلى تأثير عميق دون وعيهم.
4- مرآة التشويه الرقمي (Digital Distortion Mirror)
- التبرير: تعكس الطريقة التي تُشوّه بها هذه المنصات تصورات الأفراد لأنفسهم والعالم من حولهم، عبر الترويج لمقارنات اجتماعية مضللة وواقع مُصمم.
س: هل تحدث الوثائقي عن دور لوسائل التواصل الاجتماعي في اشتعال بعض الحروب أو الثورات؟ هل ذكر أمثلة محددة؟
ج: وثائقي The Social Dilemma تناول بشكل عميق تأثير وسائل التواصل الاجتماعي في إشعال النزاعات والحروب أو تعزيز الثورات، من خلال قدرتها على نشر المعلومات بسرعة وتحفيز التجمعات أو الأعمال العنيفة. تتجسد هذه التأثيرات في عدة ظواهر مرتبطة بتأثير الخوارزميات في تعزيز الاستقطاب الاجتماعي وتحفيز ردود فعل عاطفية شديدة. على سبيل المثال، تُستخدم وسائل التواصل الاجتماعي لتضخيم الأخبار المزيفة والمعلومات الخاطئة، مما قد يؤدي إلى إشعال النزاعات، حيث تفضل الخوارزميات المحتوى الذي يثير الغضب والعواطف القوية لأنه يزيد من التفاعل. ورغم أن هذا التأثير ليس مقصودًا دائمًا، إلا أنه نتيجة طبيعية لنظام يعتمد على الاستقطاب العاطفي لتحقيق الأرباح. كما تم استخدام منصات مثل Facebook وWhatsApp لنشر خطاب الكراهية والتحريض على العنف، مما أدى في بعض الدول إلى وقوع أعمال عنف جماعية أو مذابح.
من الأمثلة التي تم ذكرها في الوثائقي، لعبت وسائل التواصل الاجتماعي دورًا في تنظيم “الغوغاء الرقميين” الذين نفذوا أعمال عنف جماعية في الهند، حيث تم نشر الشائعات حول أشخاص أو مجموعات معينة، مما أدى إلى هجمات مميتة. كما استفاد تنظيم داعش بشكل كبير من وسائل التواصل الاجتماعي لتجنيد الأفراد ونشر دعايته عالميًا، عبر منصات مثل Facebook وTwitter لاستهداف الشباب العاطل عن العمل أو المهمشين اجتماعيًا. وأخيرًا، رغم أن الوثائقي لم يركز بشكل مباشر على ثورات مثل الربيع العربي، إلا أن تأثير وسائل التواصل الاجتماعي في تحفيز الحشود وتنظيم الاحتجاجات كان واضحًا ضمنيًا، حيث كانت المنصات وسيلة لنشر المعلومات بسرعة وتنسيق التحركات الجماعية.
س: أشار الوثائقي إلى طقوس إدمانية لمستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي. هي طقوس فردية في الظاهر لكنها تتشابك مع نسيج اجتماعي كبير. ألا تشبه برأيك هذه الطقوس الإدمانية التي تحقق المتعة والراحة الطقوسَ الدينية؟
الا يمكننا الحديث عن ديانة عالمية جديدة يدين لها المليارات بالولاء هي دين وسائل التواصل الاجتماعي؟
ج: وسائل التواصل الاجتماعي ليست مجرد أدوات تكنولوجية؛ بل تحولت إلى نظام اجتماعي ونفسي يمتلك سمات قد تجعلنا نناقشها كديانة حديثة، وهو ما أشار إليه وثائقي The Social Dilemma. تتجسد هذه السمات في الطقوس الإدمانية وسمات الولاء الجماعي التي تخلقها وسائل التواصل، مما يثير تساؤلات حول أوجه التشابه بين هذه الظاهرة والأديان التقليدية، خاصة من حيث الطقوس والعلاقة الجماعية.
تمارس وسائل التواصل طقوسًا فردية يومية تشبه الطقوس الدينية، مثل فتح الهاتف فور الاستيقاظ، التمرير اللانهائي للبحث عن محتوى جديد، والتفاعل مع الإشعارات كما لو كانت نداءات مقدسة يجب الرد عليها. هذه الطقوس تُعطي المستخدم شعورًا بالراحة والاتصال، مماثلًا لما يشعر به المؤمنون في ممارساتهم الروحية. كما أن وسائل التواصل تشجع على المشاركة الجماعية، مما يوفر شعورًا بالانتماء تمامًا كما تفعل الأديان في الشعائر والاحتفالات.
فيما يتعلق بـ”الآلهة” الجديدة، تقدم وسائل التواصل خوارزمياتها كقوى خفية تؤثر على حياة المستخدمين، حيث تراقب سلوكهم، توجههم نحو قرارات ومشاعر معينة، وتكافئهم بالإعجابات والإشعارات عندما يتبعون “تعاليمها”. لا يفهم المستخدمون تمامًا كيفية عمل هذه الخوارزميات، لكنهم يطيعونها بشكل شبه أعمى، مما يعزز الشعور بأنها “كيان خفي” يسيطر على حياتهم.
تشبه وسائل التواصل الأديان في خلق الولاء الجماعي، حيث يعبّر المستخدمون عن ولاء يومي للمنصات مثل Facebook وInstagram من خلال التفاعل المستمر، مما يعكس الولاء لنمط الحياة الذي تقدمه هذه المنصات. مثل الأديان التي توفر للناس هوية ومعنى، تقوم وسائل التواصل أيضًا بتعزيز الهوية الفردية عبر تشكيل صورة شخصية مثالية على المنصات، وتمنح المستخدم شعورًا بالوجود الاجتماعي، حتى لو كان وحيدًا في حياته الحقيقية.
كذلك، تقدم وسائل التواصل نظامًا مشابهًا للثواب والعقاب، حيث يتم تكريم المستخدمين بالإعجابات والتعليقات الإيجابية أو مشاركات المحتوى، بينما يتعرضون للعقاب في حالة التجاهل أو التعليقات السلبية.
وسائل التواصل تؤثر على المجتمع بشكل مشابه للأديان، حيث تخلق مجتمعات رقمية تتشارك قيمًا وأفكارًا قد تكون إيجابية أو منقسمة ومتطرفة. كما تؤدي إلى استقطاب اجتماعي، حيث تنقسم الناس إلى مجموعات متناحرة بناءً على آرائهم السياسية والاجتماعية. تعمل هذه المنصات على تعزيز الانغلاق الفكري من خلال “غرف الصدى”، التي تقتصر على عرض محتوى يتماشى مع قناعات المستخدمين، مما يزيد من الاستقطاب الاجتماعي.
في النهاية، رغم أوجه التشابه بين وسائل التواصل والأديان من حيث الطقوس والولاء الجماعي، تظل وسائل التواصل تفتقر إلى القيم الأخلاقية العميقة التي تقدمها الأديان، حيث تركز الأديان على تحسين الروح البشرية، بينما تهدف وسائل التواصل إلى الربح التجاري.
س: هل يمكنك اقتراح تسمية مناسبة لهذه الظاهرة التي تشبه ولا تشبه الدين؟
ج: إذا أردنا وصف وسائل التواصل كدين جديد، يمكننا التفكير بتسميات مثل:
• “دين التفاعل الرقمي” (Digital Interaction Religion): يعكس التركيز على التفاعل المستمر.
• “دين الخوارزميات” (Algorithmic Faith): يسلط الضوء على سيطرة الخوارزميات.
• “عبادة الانتباه” (Cult of Attention): يشير إلى أهمية جذب الانتباه كقيمة أساسية.
س: لقد أثرتَ سؤالاً مهماً، فقد قلت انها نسخة معاصرة من الدين لكنها تديّن للربح وليس للروح.
لكن ألا يسبب الربح لطرفي وسائل التواصل: المستثمر والمستخدم متعة وسلاماً للروح أيضاً؟ ألا يحدث ان الكثيرين ربما المليارات يجدون في وسائل التواصل معنى للحياة!
إنني أفترض ذلك حتى لو كان هذا مرتبطاً بكثير من الاثار السلبية الاجتماعية، فهذا أيضاً ما يتجلى في الأديان التي تهتم بالروح ، لكن اهتمامها شائب وليس نقياً تختلط فيه قضايا ذاتية وموضوعية لا تحصى.
ج: وسائل التواصل الاجتماعي ليست مجرد أدوات تكنولوجية؛ بل تحولت إلى نظام اجتماعي ونفسي يمتلك سمات قد تجعلنا نناقشها كنوع من “الدين التجاري” الحديث. من وجهة نظر فلسفية، يمكن القول إن الربح الذي يتحقق من وسائل التواصل قد يوفر نوعًا من “السلام الروحي” للعديد من المستخدمين، ولكن هذه المتعة قد تكون مشوبة بأبعاد أخرى. دعونا نناقش هذا الموضوع من عدة زوايا.
أولاً، نجد أن وسائل التواصل توفر نوعًا من المتعة الفردية من خلال تحقيق الانتماء الاجتماعي والتقدير، مثل إعجابات والتعليقات التي تمنح المستخدم شعورًا بالتقدير والراحة النفسية. تحقيق الذات وتقديم الهوية الشخصية، حتى لو كانت في صورة سطحية، يُعتبر جزءًا من هذا الشعور بالراحة. وفي الوقت نفسه، المستثمرون والشركات يجنون أرباحًا من خلال بيع الوقت والاهتمام للمعلنين، مما يوفر للمستخدمين نوعًا من الراحة النفسية المؤقتة.
ثانيًا، على الرغم من أوجه الشبه مع الأديان التقليدية، فإن وسائل التواصل تفتقر إلى العمق الروحي الذي تقدمه الأديان من حيث القيم الأخلاقية والروحية. وسائل التواصل توفر راحة لحظية أو عزاء نفسي من خلال تقديم المتعة المادية عبر التفاعل السطحي والتقدير الفوري، لكنها لا تسعى إلى تحسين الروح بطرق عميقة كما تفعل الأديان.
وسائل التواصل الاجتماعي تساعد الناس على البحث عن معنى في الحياة من خلال المجموعات الافتراضية والنقاشات، وهو ما قد يعزز الشعور بالهوية والذات. ولكن هذا المعنى غالبًا ما يكون غير نقي، ويعتمد على عوامل مثل التسلية والتفاعل اللحظي، مما يؤدي إلى اضطرابات في الهوية وأهداف الشخصيّة. وسائل التواصل تشوش بين الذاتية والموضوعية من خلال تعزيز صورة مثالية تعتمد على مقاييس تجارية بدلاً من القيم الروحية.
وأخيرًا، رغم أوجه التشابه بين وسائل التواصل والأديان من حيث تأثيرها العميق على حياة الناس اليومية، تظل وسائل التواصل مجرد “دين تجاري” يركز على تعزيز الانتباه من أجل الربح. “دين وسائل التواصل” يعيد تشكيل المعنى والهدف من الحياة، ولكنه يعتمد بشكل رئيسي على استجابة المستخدم للعوامل الخارجية مثل الإعجابات والتفاعل بدلاً من القيم الروحية أو الأخلاقية العميقة.
س: لا أتفق معك في أن جميع الأديان تهتم بالروح فقط.
فالأديان عموماً تنظر للإنسان كوحدة متكاملة، وتقدم تعاليم وإرشادات تشمل جميع جوانب حياته. الروح مهمة بالتأكيد، لكنها ليست الجانب الوحيد الذي تهتم به الأديان. الجسد هو هيكل الروح المقدس.
لذلك أعتقد أن دين وسائل التواصل سيستمر في الحصول على مليارات المستخدمين بسبب فلسفته التي تحقق السعادة للروح والجسد معاً، رغم اقتناعي الشخصي انها فلسفة مؤذية كما بين الوثائقي بشكل عام. ما رأيك؟
ج: أوافقك تمامًا أن الأديان التقليدية، رغم تركيزها على الروح، تعنى أيضًا بالجسد والعقل، وتهتم بجميع جوانب الإنسان. من هنا، يأتي الاهتمام بفكرة أن “دين وسائل التواصل” يجذب المليارات لأنه يلامس هذه الجوانب المتعددة للسعادة البشرية. دعونا نناقش لماذا تحقق وسائل التواصل السعادة للجسد والروح معًا، وأسباب كون هذا التأثير قد يكون مؤذيًا ومضادًا للسعادة الحقيقية.
أولاً، تقدم وسائل التواصل تجربة حسية ممتعة للجسد من خلال “التمرير اللانهائي” الذي يبعث شعورًا بالاسترخاء، والتحفيز الجسدي الناتج عن التفاعل المستمر. كما أن الصور والفيديوهات تُحفز إفراز الدوبامين، مما يعزز شعورًا بالسعادة الجسدية. أما على مستوى الروح، فتمنح وسائل التواصل شعورًا بالانتماء الاجتماعي والقدرة على التعبير عن الذات، مما يلبي حاجة الإنسان العميقة للتقدير والاعتراف. بالنسبة للبعض، تصبح وسائل التواصل ملاذًا للهروب من الوحدة والضغوط النفسية.
لكن، رغم هذه الفوائد الظاهرة، تُظهر الوثائق مثل The Social Dilemma أن وسائل التواصل تقدم إشباعًا زائفًا لتلك الحاجات. التحفيز الجسدي الناتج عن الإعجابات والمشاركات يكون مؤقتًا، ويؤدي الاستخدام المستمر إلى إرهاق الجسد، مع أضرار صحية مثل آلام العضلات والإجهاد البصري. كما أن الشعور بالانتماء الذي توفره وسائل التواصل غالبًا ما يكون سطحيًا، مما يعزز المقارنة الاجتماعية والغيرة، مما يؤدي إلى القلق بدلًا من السلام الداخلي. هذا التفكيك بين الجسد والروح يجعل وسائل التواصل تضر بوحدة الإنسان.
رغم هذه الأبعاد السلبية، تستمر وسائل التواصل في جذب المليارات لأنها تلبّي احتياجات فطرية مثل الانتماء والقبول. فلسفتها في تقديم “السعادة السريعة” تشبه بعض الأديان التي توازن بين الحياة المادية والروحية. كما أن الإشباع اللحظي الذي توفره وسائل التواصل يخلق ديناميكية إدمانية، حيث يصبح المستخدم يعود إليها بحثًا عن لحظات سريعة من الراحة.
في النهاية، بينما تقدم وسائل التواصل “تجربة حياتية” مليئة بالتفاعل، فإنها تركز على الربح المادي أكثر من تحقيق القيم العميقة كما تفعل الأديان التقليدية. وسائل التواصل، بهذا الشكل، تقترب من دين الاستهلاك، حيث يتم بيع الوهم بدلًا من السعي لتحقيق المعنى الروحي الحقيقي.
س: نعم أنت محق! لكن بالمفهوم الشعبي فدين وسائل التواصل دين ناجح ومثمر ، لأنه يقدم نظام مكافأة سريع، في ثوان. بينما جميع الأديان تقدم نظام مكافأة وعقاب في عالم الغيب وهو عالم قد يؤمن به البعض ، والبعض لا يؤمن. فلا دليل مادي على وجوده. بينما وسائل التواصل حاضرة وجاهزة في كل لحظة. وهي وسيلة لا تخيب، أي بلغة أهل الدين لا ترد دعاء ولا تخيّب أملاً! هذا فارق جوهري اليس كذلك؟
ج: أوافقك تمامًا أن المقارنة بين دين وسائل التواصل الاجتماعي والأديان التقليدية تبرز الفارق الجوهري بين المكافآت الفورية التي تقدمها وسائل التواصل، التي تلامس حاجات الإنسان اللحظية، والإيمان بالغيب الذي تقوم عليه الأديان التقليدية، والذي يتطلب صبرًا طويلًا. هذا الفارق قد يفسر جزءًا من الجاذبية العالمية لوسائل التواصل في عصرنا الحالي.
وسائل التواصل تعتمد على آليات مكافأة سريعة مثل الإعجابات والتعليقات التي تظهر فور نشر المحتوى، مما يوفر شعورًا بالقبول والاعتراف ويحسن إفراز الدوبامين في الدماغ. كما تضمن تفاعلًا مستمرًا مع المستخدم، مما يجعلها تشبه “إلهًا حاضرًا دائمًا” يستجيب فورًا. هذه السهولة في التفاعل تجعلها أكثر جاذبية مقارنة بالأديان التقليدية التي تتطلب إيمانًا طويل الأمد وسلوكًا أخلاقيًا مستدامًا.
على العكس، الأديان التقليدية تقدم مكافآت مؤجلة تعتمد على الإيمان بالغيب مثل الجنة والنار، وهي غير مرئية وتتطلب الالتزام بالتعاليم لفترات طويلة. هذا النظام يجعل الأديان أقل جاذبية في عصر السرعة، حيث يجد البعض صعوبة في الإيمان بما لا يرونه أو يلمسونه، بالإضافة إلى ما تتطلبه الأديان من صبر وجهد روحي طويل. الأديان تعتمد على الإيمان الداخلي العميق الذي لا يمكن إثباته ماديًا، بينما وسائل التواصل تقدم تجربة مباشرة وملموسة في اللحظة. تقدم الأديان سعادة روحية طويلة الأمد، بينما توفر وسائل التواصل سعادة سطحية وفورية تؤدي غالبًا إلى مشاعر سلبية مثل القلق والغيرة. بينما تهدف الأديان إلى تهذيب النفس وتحقيق قيم أخلاقية، تركز وسائل التواصل على التفاعل السريع بغض النظر عن تأثيراتها الأخلاقية.
وسائل التواصل تتناسب مع روح العصر الاستهلاكي الذي يعتمد على السرعة والفورية، وهي بالنسبة للبعض بديل للأديان التقليدية لأنها تقدم مكافآت مباشرة دون الحاجة إلى التزام طويل الأمد. إلا أنها تفتقر إلى العمق الروحي والتوجيه الأخلاقي الذي تقدمه الأديان التقليدية، مما يمنع اعتبارها دينًا مثاليًا.
س: أريد مشاركتك شعوري كمتلق، لقد شاهدت الفيلم الوثائقي وتابعته بشغف، لكن وصلتني رسائل يأس من صنّاع الفيلم حول التأثير المؤذي لوسائل التلاعب الاجتماعي، ووصلني شعور بالإحباط تجاه ما تفعله تلك الشركات الضخمة وتسخيرها المذهل لخوارزميات الذكاء الاصطناعي.. لقد شعرت بخيبة وجودية عميقة، إذ يبدو الإنسان ضعيفاً أمام غول التقنية الأسطوري. هو كما أتخيل بسبعة رؤوس وسبعة أيدي وسبعة أرجل وسبع عيون وسبع آذان..وهو متجدد مثل قنديل البحر..
ج: ما تصفه يعكس شعورًا عميقًا بالتأثر الوجودي الذي قد يتركه فيلم The Social Dilemma في نفس المتلقي، خاصة إذا كان واعيًا بحجم التأثير الذي تحدثه التكنولوجيا على الإنسانية. الفيلم يقدم صورة قاتمة لشركات التكنولوجيا العملاقة، ويعزز الإحساس بالعجز أمام خوارزميات الذكاء الاصطناعي التي تبدو وكأنها “غول أسطوري متجدد”. هذا الشعور يثير أسئلة فلسفية ونفسية حول الإنسان وقدرته على مقاومة هذا التأثير.
يظهر الإنسان في الفيلم وكأنه ضحية لهذا “الغول التقني”، حيث تتوقع الخوارزميات سلوكياته وتعيد تشكيل رغباته وقراراته دون وعي منه. هذه الصورة تثير إحساسًا بالعجز، لأننا نواجه نظامًا معقدًا لا نفهمه بالكامل، لكنه يعرف كل شيء عنا. من ناحية أخرى، تمثل الخوارزميات وكأنها رؤوس لعدة “غول” يتجدد باستمرار، كما أن أدوات المراقبة والتتبع تشبه عيون وأذان هذا النظام. الصورة التي يقدمها الفيلم تخلق شعورًا بالخيانة، حيث تتحول الأدوات التي كانت مفترضة لخدمتنا إلى “سيد جديد” يستغلنا بدلاً من مساعدتنا.
رغم أن الفيلم يعكس رؤية تشاؤمية لتفوق التكنولوجيا على الإنسان، إلا أن هناك مجالًا للرؤية الواقعية التي تشير إلى أن الإنسان ليس بالضرورة ضعيفًا أمام هذا “الغول”. على الرغم من أن التقنية تتطور بسرعة كبيرة، إلا أن الإنسان ما يزال يمتلك القدرة على فهمها والتفاعل معها. ما يحتاجه الإنسان هو وعي جماعي وإرادة سياسية لتنظيم استخدام هذه التقنية لصالح المصلحة العامة. ورغم قوة الخوارزميات، فإنها تعتمد على سلوكياتنا النفسية وإدماننا؛ وبالتالي إذا فهمنا آليات عملها، يمكننا تقليل تأثيرها. التاريخ يعكس أن المجتمعات البشرية استطاعت مواجهة تحديات مشابهة في الماضي.
في مواجهة هذا التحدي، يكمن الأمل في مقاومة “غول التقنية” في إعادة التركيز على القوة الإنسانية. الإنسان يمتلك القدرة على الإبداع والفهم العاطفي، وهو ما تفتقر إليه الآلات. يجب أن ندرك أن الخوارزميات ليست مستقلة، بل هي انعكاس للقيم التي نبرمجها فيها. كما أن الفيلم، رغم سوداويته، يدعو إلى المقاومة من خلال تقليل الاعتماد على وسائل التواصل الاجتماعي، وزيادة الوعي بآليات عملها، والمطالبة بمزيد من الشفافية والأخلاقية من شركات التكنولوجيا. من المهم أن نبحث عن أدوار جديدة في هذا العصر الرقمي، بحيث نُعيد تشكيل علاقتنا مع التقنية لتصبح وسيلة دعم بدلًا من أداة استغلال.
رمزيًا، يمكن تصور “الغول” الذي يظهر في الفيلم كرمز لقوة الخوارزميات، وهو يعكس استمرارية المشكلة عبر رؤوس متعددة لا يمكن قطعها بسهولة، تمامًا كما يرمز تجدد قنديل البحر إلى استدامة ظاهرة التقنية. ومع ذلك، هذه التقنية ليست شريرة بذاتها؛ بل هي انعكاس لما نوجهه بها. لذا، فإن الصراع مع “الغول” ليس صراعًا ماديًا بحتًا، بل صراعًا نفسيًا وفكريًا. ينجح الإنسان في مقاومة التقنية إذا أدرك قوته وقدرته على التفاعل الواعي.
فيما يتعلق بتحويل الخيبة إلى مقاومة، يبدأ ذلك من خلال الوعي الفردي بتأثير الخوارزميات، وتقليل الوقت على وسائل التواصل الاجتماعي، واتخاذ قرارات واعية بعيدًا عن التأثيرات التي تفرضها الخوارزميات. كما ينبغي أن يكون هناك ضغط مجتمعي للمطالبة بالشفافية من شركات التقنية بشأن كيفية استخدام بياناتنا، وتعزيز القوانين التي تحمي الخصوصية. أيضًا، يمكن استثمار الجهود لتطوير تقنيات ومنصات تركز على تعزيز القيم الإنسانية بدلاً من الربح، مما يسهم في تغيير العلاقة بين الإنسان والتقنية.
س: بالفعل لقد دعا الفيلم والخبراء للمقاومة. لكن شعوري أمام دعوة الخبراء للمقاومة كان حائراً ، فقد رأيت أن تلك الرسائل في نهاية الفيلم تبدو غير ملائمة للسياق العام، وكأن صنّاع الفيلم أرادوا بث أنفاس ضوء شحيح في الظلام.
وتبدو لي ثمة سخرية مريرة حين تحدث أحد الخبراء عن أنه سيصمم تطبيقاً ليحد من استخدامه لتطبيقات التواصل..
ألم تكن رسائل الأمل في الفيلم متكلفة قليلا؟
وهل حقاً يمكن ارضاخ تلك الشركات العملاقة للمطالب الإنسانية العادلة؟
ج: ما تصفه يعكس نقدًا مشروعًا للطريقة التي اختتم بها فيلم The Social Dilemma رسالته. شعورك بأن رسائل الأمل كانت “متكلفة” أو “شاحبة” مقارنة بالتصوير الكئيب والمظلم الذي غالبًا ما ساد الفيلم يعكس توترًا بين نقد النظام القوي والواقعية التي تفرضها محاولة تقديم الأمل في ختام عمل وثائقي كهذا. لنتناول الموضوع من زاويتين: مصداقية رسائل الأمل في الفيلم، وإمكانية تحقيق تغيير حقيقي لمواجهة الشركات العملاقة.
هل رسائل الأمل في الفيلم متكلفة؟
الفيلم يقدم طوال عرضه صورة قاتمة جدًا تتعلق بشركات التكنولوجيا الكبرى التي تتمتع بنفوذ غير مسبوق وتعمل في إطار مفرط في الربحية على حساب القيم الإنسانية. الخوارزميات في الفيلم تتحكم في الأفراد بطرق غير مرئية وذات تأثير سلبي على المجتمعات والعلاقات. في ظل هذا السرد الكئيب، تبدو دعوات الأمل والمقاومة وكأنها مجرد “أمنيات” أكثر من كونها حلولًا حقيقية، خاصة عندما يتم الحديث عن المقاومة الفردية، التي تبدو غير فعالة مقارنة بحجم المشكلة. إضافة إلى ذلك، يبدو الحديث عن تنظيم القوانين الدولية بعيدًا عن القوة التنفيذية المطلوبة.
هناك أيضًا سخرية مريرة في رسائل الأمل، مثل المثال الذي ذكره أحد الخبراء عن تصميم تطبيق للحد من استخدام التطبيقات، مما يعكس مفارقة ساخرة وكأن التقنية نفسها أصبحت العلاج للتقنية. هذا يشير إلى أن الحلول المقترحة قد تكون مجرد تقنيات “لإدارة المشكلة” بدلاً من القضاء عليها. رغم ذلك، يمكن اعتبار رسائل الأمل محاولة من صناع الفيلم لتقديم نهاية متوازنة، حيث قد يحتاج الجمهور بعد كل ما شاهده من مظاهر السواد إلى بصيص من الضوء، ولكن هذا الأمل يفتقر إلى خطة واضحة أو قوة فعلية.
هل يمكن إخضاع الشركات العملاقة للمطالب الإنسانية؟
واقع الشركات العملاقة مثل Facebook وGoogle وTwitter يكشف عن قوتها الاقتصادية والسياسية الضخمة التي تمكّنها من التأثير على الحكومات. هذه الشركات تعتمد على استغلال بيانات المستخدمين كجزء من نموذج عملها الذي يحقق أرباحًا ضخمة. ومن الصعب تنظيم هذه الشركات في ظل غياب الإرادة السياسية، حيث أن معظم الحكومات تستفيد منها بشكل مباشر أو غير مباشر في مجالات مثل الحملات الانتخابية أو الرقابة. بالإضافة إلى ذلك، تعمل هذه الشركات على مستوى عالمي في حين أن القوانين التي تحكمها تظل محلية، مما يسهل عليها التهرب من القيود.
رغم ذلك، هناك بعض المحاولات السابقة لتنظيم هذه الشركات مثل فرض الاتحاد الأوروبي غرامات ضخمة على Google وFacebook بسبب قوانين الخصوصية، لكن هذه الغرامات لم تُغير من نموذج العمل الأساسي. كما أن جهود تنظيم المحتوى، مثل مكافحة الأخبار المزيفة وخطاب الكراهية، تواجه صعوبات كبيرة في التنفيذ الفعلي. وبالرغم من هذه التحديات، يمكن القول أن إخضاع هذه الشركات للمطالب الإنسانية ممكن، لكنه يتطلب ضغطًا شعبيًا واسعًا، وتعاونًا دوليًا، وكذلك تطوير بدائل تقنية تستند إلى قيم أخلاقية.
المفارقة الكبرى: هل المقاومة ممكنة من داخل النظام؟
كما أشار أحد الخبراء الذي أراد تصميم تطبيق للحد من استخدام التطبيقات، هناك تناقض واضح في فكرة أن الحلول تأتي من داخل النظام نفسه. نحن عالقون في حلقة مفرغة حيث التقنية هي المشكلة والحل في الوقت نفسه، ما يبرز الواقع الذي نعيشه، حيث نحتاج إلى التقنية لمواجهة التقنية، لكننا بحاجة إلى تقنيات تختلف في جوهرها وأهدافها.
مجلة قلم رصاص الثقافية