الرئيسية » ممحاة » “جمهورية يع” عندما يصبح الجميع مُقْرِفين!

“جمهورية يع” عندما يصبح الجميع مُقْرِفين!

القرفُ والاشمئزازُ عند الإنسان وسيلةٌ تطوريةٌ معقّدةٌ للحماية من المرض والموت عبر ردِّ فعلٍ آليّ سريعٍ تجاه مسبباته، ولذلك تجدُ المقرفَ هو ما يسبِّبُ نقل العدوى أو يكون بيئةً لنمو مسبباتها! وأمّا إثارة القرفِ من فعلٍ أو قولٍ أو فئةٍ أو توجّهٍ فكريٍّ أو سياسيٍّ فوسيلةٌ معقدةٌ للهندسة الاجتماعية! هدفها دفع الناس للقرف من الضحية ومباركة الجلاد، وكلُّ أشكال الإبادة والاستعباد والتطهير العرقيّ والشمولية والدكتاتورية الاجتماعية على الإطلاق قامت على تغذية القرف من الضحية المستند إلى العرق أو الدين أو الجنس أو العقيدة الفكرية أو الموقف السياسي أو حتى التفاوت الحضاري والاختلاف الطبيعي في التقاليد والعادات في الطعام والشراب والزواج والضيافة!

وما يلزم لذلك من تضخيمٍ وتشويهٍ لتلك الفروقات وتغيير حقائقها بل وابتداعها من الصفر أحياناً! حتى يصل العامة الأنصار إلى تسامُحٍ مطلقٍ مع التنكيل بوصفه شكلاً من أشكال التطهير لـ “أجسامٍ مُفسِدةٍ لطهارة وطوباية الدولة والمجتمع” والتدافع للانضمام إلى “القرفانين” للنجاة من خُطّاف الجلاد الذي يحصد المُقرِفين.
والمذهلُ أن هذا القرف الجديد المصطنع ينتهي أحياناً إلى تعطيل بعض أشكال الاشمئزاز التطوريّة المرتبطة باستجابات عصبيّة لاإراديّة، فالجثث المُتفسِّخة مثلاً والتي أجبرتْ الإنسان على ابتكار آلياتٍ معقّدةٍ لتجنُّب مخاطرها على حياته -صحياً ونفسياً- منها القرف والاشمئزاز وابتكارُ أساليب مقدّسةٍ للتخلص منها بالدفن أو الحرق أو دفعها في ماء نهر؛ تصبح سبباً لسعادةٍ غامرةٍ واحتفاءٍ أبلهَ بالنسبة لأنصار السفّاح عندما يدبك فوقها في الشوارع والطرقات!

هذا “التقريف” المُمنهج ساعد البعث في سوريا على بناء قاعدةٍ شعبيةٍ من المجرمين المتطوعين والمتسامحين مع الإجرام، وسكّن آلام الجلّادين والسجّانين وأهاليهم والشهود عليهم وجعلهم قادرين على النوم هانئين وقد قدّموا خدمةً جليلةً للأخ الكبير والمجتمع تستحق الثناء والمكافأة، ثم أدرك المتناحرون فاعلية هذا النهج وأهمية تبنّيه! فتجدهم جميعاً يلجؤون إلى تعزيز الاشمئزاز والقرف ليتمكّنوا من ارتكاب المذابح تحت سقفٍ من التسامح الشعبي والمباركة.

كذلك جميع الخرافات التي يتم ترويجها عن فئةٍ بذاتها وخصوصاً خرافات الجنس والغذاء والنسب والمقدسات والنوايا والنبوءات، لا يمكن إخراجها من هذا السياق، أيضاً محاولة الربط بين المصائب والكوارث الطبيعية أو البشرية وبين عادات وسلوك الناس أو درجة إيمانهم، كالقول إن سفور النساء سبب الغلاء وقلة الإيمان سبب البلاء وتمكّن الطغاة، وهي مقدمةٌ دنيئةٌ لاختصار المعركة بفئةٍ “مقزّزةٍ سرطانيّةٍ مؤذيةٍ معدية” تسعى لتدمير الثوابت وحلّ الروابط وبثِّ السموم وتستمطر عقاباً سماوياً للجميع، تواجهها فئةٌ طوباويةٌ طاهرةٌ تحمل في يدها “كتالوج” الإصلاح ومفاتيح النجاة في الدنيا أو في الدنيا والآخرة معاً! لكن ذلك يتطلب استئصال الفئة الأولى أو تقويمها بإجبارها على التبرؤ من ذاتها المقزّزة! والتسامح المطلق مع التنكيل بها بكل أشكاله.

الغالب في أصل كلمة “يَعْ أو ياع” أنها مصريّةٌ قديمةٌ مشتقّةٌ من “عاع” ومعناها المسبّب للمرض والعلّة الشريرة ولا مصدر عندي لذلك، وكأن شعبنا أطفالٌ بلهاء تقول لهم السلطة مشيرةً إلى الفئة التي تهدِّد استقرارها أو تعي مشاريعها الشمولية المقرفة: “ياع، كُخْ كُخْ، انياااع” فإذا فتكت بهم تبسّم الودعاء وباركوا لها ولأنفسهم الخلاص، ثم تتبدَّل السلطة ويتبدَّل التهديد ويتبدَّل معه اتجاه الـ “يَعْ” والقرف، لتتحول البلاد إلى جمهورية “يَعْ” كل من فيها مُقرِفون ومُقرَفون.

مجلة قلم رصاص الثقافية

عن عامر العبود

عامر العبود

شاهد أيضاً

مع ستيفان زفايج

يبدو لي أن الكاتب النمساوي ستيفان زفايج هو الأكثر اهتماما بمتابعة خيبات الحب، وأثرها في …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *