الرئيسية » رصاص عشوائي » الغجر ليس لهم وطن، وحين يتعرَضون لأزمات يقولون: إنَّ أرض الله واسعة

الغجر ليس لهم وطن، وحين يتعرَضون لأزمات يقولون: إنَّ أرض الله واسعة

الغجري ليس له أرض، إنَه يتنقَل حيث يطيب له المقام، وهو لا يدافع عن شيء، يكون اليوم هنا وفجأة يصبح هناك، لا شيء يربطه بالأرض، يضبَ فراشه الخفيف ولحافه ويحملهما على دابته، يأخذ عياله، وينطلق إلى أرض جديدة.

عمله: بائع زهور في الحدائق العامة، يتقدَم إليك، وبكلَ أدب، يقول: هل تشتري مني هذه الوردة، ويختار رجلاَ وفتاة يستريحان على أحد الكراسي، وماسح أحذية ينتقل في الساحات ليصبغ أحذية المارة، بالإضافة إلى صنعة التسوَل، التي تعمل بها النساء والأطفال، الصبية تحمل الصغير بيديها، وتطلب أن تعطيها شيئاَ، إنَها تدعو لك بطريقة آلية، وتظلُ متابعة إياك حتى تعطيها.

وهناك النور وهم عشيرة أخرى من الغجر وهؤلاء يطوفون بين القرى ويضعون رحالهم على أطرافها، ينزلون ليلاَ على بيت كانوا اتفقوا معه على الرقص والغناء، وهو يجمع الشبان ومن يريد الفرجة على النوريات، وفي الساعة المذكورة تبدأ النورية بالرقص وتساعدها واحدة أخرى في الغناء، ورجل آخر يعزف لهما على الطنبور، وآخر على الطبلة، وتستمرُ الحفلة حتى تنتهي النقود، و(شوباش) لفلان الفلاني، له مني ألف تحية وسلام، وأيضاَ سلام لصاحب الدار وكلَ من جاء معه، والذين تحمسَوا وانتهت نقودهم يسارعون إلى بيوتهم ليجلبوا نقوداَ أخرى حتى تنتهي السهرة، وتكون هناك عمليات نصب على الشبان آخر الليل.

وسابقا كان الغجري يركب أسنان الذهب ويسافر من قرية إلى أخرى، وعلى أطراف المدن، ومن بلد إلى آخر، وبخاصة في أفريقيا، ليركب أسنان الذهب للسكان، كما أنَ بعضهم كان يبحث عن الحمير والبغال النافقة فيسلخها ويأخذ جلدها ليصنع الطبل والطبلات، وبعضهم امتهن السرقة فيسطو على أشياء الناس بطريقة ذكية، فعندما يمرُ بك غجري، انتبه فقد يكون قد سرق منك شيئا، والنساء تسرق من البيوت أحياناَ.

الغجر، ويسمون في سورية بالقرباط والنور، وجنكنة في تركيا، ولوريان في إيران، وزطوت في سلطنة عمان واليمن، وفي الهند يدعون بالجط، يقابله الاسم بالعراقي الزط وفي أوروبا يسمَون جيتان في فرنسا، وزيغونار بالألمانية والإيطالية، وتيشغبول بالمجرية، وتسيغان بالرومانية، وعددهم كبير هناك، وقد اعتبرتهم الدولة مواطنين، فأعطتهم جوازات سفر وبيوتاَ وعاملتهم كبقية المواطنين، ولهم بعض الأشعار، وهي شفهية، يقول أحدهم واصفاَ حبيبته: ما أجمل هاتين العينين المكحلتين بالسواد، أفتح قلبي ليسعهما ويغمرهما بالحنان. ويقول آخر وهو يصف شجاعته: أنا لا أخاف من الموت، فليجربني إذاَ، إنَ قلبي يشبه الحصان الذي أمتطيه. وآخر يصف السرقة، بقوله: الجالس على الطاولة هناك، أمامه هاتف، كيف سأسرقه، فلأحضر جريدة، وألفه بها وأنطلق دون أن يشعر بي.

   وقد سكنوا في غربي إيران، في إقليم الأهواز وإقليم البطائح جنوب العراق قبل الإسلام، وعاشوا في الدولة الإسلامية وكان لهم دور سياسي في هذه الدولة، وقد مارس السلطان محمود الغزنوي الضغط عليهم فهاجروا إلى أوربا، وهناك قول آخر بأنهم هاجروا زمن المغول.    

وهم أميُون، لا يتكيفون مع المجتمعات التي يعيشون فيها، ولا يعرفون تاريخاَ لهم، يمضون يومهم بحثاَ عن الرزق، أثبتوا عصيانهم وعرفوا بصعوبة السيطرة عليهم، وقد قالوا: إنَ أصلهم من الهند، وهم لهم حضورهم فيها، وبعضم يرجع أصلهم إلى مصر، وقد اعتنقوا الإسلام في البلاد المسلمة، وعندما هاجروا إلى أوروبا اعتنقوا المسيحية وتركوا الإسلام وصار منهم قساوسة ومبشرين، والثقة بهم ضعيفة حول ولائهم لأي بلاد أو دين، وقد تعرَض الغجر إلى التصفية العرقية والمذابح بسبب احترافهم لبعض المهن كالسرقة والسحر والشعوذة والتسوُل والاحتيال، وهذه المهن هي التي تميَز الغجري عن غيره، والآن أخذوا يضيفون إليها الحدادة ونقش الوشم والطب الشعبي، وأهم ما يميزهم هو الرقص والموسيقا، لقد امتهنوا التسوُل والسرقة في أوروبا ممَا عرضهم للرفض الاجتماعي والقتل والتهجير، وأجبرهم ذلك على السفر الدائم والبحث عن الاستقرار الذي لن يجدوه.

تسرَب الغجر من اليونان في القرن الرابع عشر، وبضغط من الأتراك إلى البلقان، وتعرَضوا للاضطهاد فهاجروا مرَة أخرى إلى أوروبا، وعاشوا في ظلِ التطورات السياسية الصعبة التي كانت فيها، وفي القرن السادس عشر استفادوا من تعاظم الدولة وحمايتها للمواطنين وكان الغجر منهم ولكن بسبب مشاركتهم في أعمال السرقة والنهب التي أعقبت حروب الإصلاح الديني، بين عامي 1618 ـ 1648 التي أدَت إلى دمار عام في ألمانيا تعرض الغجر لأبشع عمليات التعذيب والتنكيل التي لا يوجد لها مثيل في التاريخ، فقد جسَدوا الجماعة التي لا تربطها بالأرض أية رابطة إلا لقمة العيش، فكانوا يستبيحون أي وسيلة للحصول على المال، حتى صارت كلمة غجري من أبشع الصفات التي تعرِض صاحبها للقتل دون أن يسأل القاتل عنها.

وتعرَض الغجر إلى التصفيات العرقية في ألمانيا مرَة أخرى زمن تصفية العرق الألماني، مما عرف بالنازية، وقتلت أعداد كبيرة من الغجر في السجون والمعتقلات والأفران البشرية، ولكن بعد هذه المرحلة (في المرحلة الماركسية) استفادوا من انتشار الماركسية وشعاراتها التي تقول: بحقوق الإنسان والمساواة فقد تمكنوا من الإقامة ضمن البيوت ونيل التعليم واعترفت بهم العديد من الدول الأوروبية في المقدمة إنكلترا إذ عاملتهم معاملة المواطنين من حيث التعليم وفرص العمل والخدمات، ولكن بعد سقوط النظام الماركسي في أوروبا الشرقية وصعود الجماعات العنصرية كان الغجر أول الضحايا من هذا النظام.

مرَة أخرى بدأ بعض الغجر في البحث عن هوية وتحديد سمات عامة لها، وحاولوا تشكيل مؤتمرات لهم وإصدارات خاصة بهم.

الغجري في كلِ أطراف المعمورة حتى اليوم يميل لحياة الفوضى والتشرد وعدم الانتماء، إنَه ذو بشرة داكنة وعيون سوداء واسعة، ويلاحظ أنَ العالم بدأ يهتمُ ببعض جوانب حياة الغجر، فنلاحظ بعض المسلسلات (كساندرا) التي عرضها التلفزيون، وهناك بعض الأفلام التي تصوِر حياتهم واعتمدت بصورة رئيسية على حياتهم (الغجر يصعدون إلى السماء)، والأزياء الغجرية معروفة ببراقعها الملونة والزاهية وتفصيلاتها الغريبة والمميزة، وطريقة وضع المساحيق على الوجه، وقد صارت موضة عالمية، ولا زال الغجر يمارسون إلى اليوم أعمالهم التقليدية كنقش الوشم والسرقة والحدادة ومسح الأحذية إلخ، ومنهم من يعمل في بعض دول أمريكا اللاتينية بالرقص والموسيقا والغناء.

ولا زالت كلمة غجري ذات مدلول سيَء وضيع، والسبب ما خلَفه هؤلاء من تاريخ في السرقة والاحتيال وفساد الأخلاق وعرف عنهم العمل في الدعارة والنهب والخطف، وتتعامل الدول معهم ضمن هذا الإرث، وهم لا يستطيعون إلا الانتقام من هذه المعاملة برد فعل كبير، من أين جاء هؤلاء، وإلى أين يمضون في ظلِ متغيرات العالم، الذي يحمل معه طابعاَ أقسى من التصفية العرقية ولكن بأساليب جديدة، فهل يملكون الوقت والإمكانيات لتحسين صورة الغجري، في زمن صارت كلمة (غجري) تعني أنك متخلف وجاهل ولست أهلاَ للثقة وتحمُل المسؤولية.

في رومانيا/ بوخارست تعرَضت لعملية سرقة، وكنت ضحيتها، وأبطالها امرأتان غجريتان، فقد كنت جالساَ في أحد المقاهي أنا وصديق لي، جاءت إحداهنَ إلى الطاولة، تسألني شيئاَ، وكان معها جريدة، وكنت أضع الهاتف النقال على الطاولة، أعطيتها الذي فيه النصيب، وذهبت إلى حال سبيلها، وبعد لحظات انتبهت إلى سرقة الهاتف النقال، لقد رمت عليه الجريدة وسرقته، أسرعت خلفها وأوقفتها وعندما سألتها عنه، أنكرت ذلك ثمَ قالت: فتشني، وقمت بذلك، فلم أعثر على شيء، وعدت ملوماَ محسوراَ، قال أحد الجالسين: إنها سرقته ومرت بجانبها امرأة أخرى، أعطته لها، لذلك لم أجد شيئاَ عندها، لقد سرق الهاتف النقَال و هربت الغجريتان دون أن أمسك بهما.

مجلة قلم رصاص الثقافية

عن فيصل خرتش

فيصل خرتش
فيصل خرتش روائي سوري مُقيم في حلب، حائز على جائزة نجيب محفوظ للرواية عام 1994. صدرت له تسع روايات: موجز تاريخ الباشا الصغير (1990) والتي مُنعت من التداول في سوريا، تراب الغرباء (1994)، أوراق الليل والياسمين (1994)، خان الزيتون (1995)، مقهى المجانين (1995)، حمّام النسوان (2000)، مقهى القصر (2004)، شمس الأصيل (2008)، ودوّار الموت بين حلب والرقة (2017)، إضافةً إلى عدد من المجموعات القصصية، منها: الأخبار (1986)، وشجرة النساء (2002). وله مسلسلان تلفزيونيان، وفيلم سينمائي عن روايته (تراب الغرباء) من إخراج سمير ذكرى وحاز على جائزة أفضل فيلم سينمائي في مهرجان القاهرة عام (2000) وهو عن المفكِّر عبدالرحمن الكواكبي. كما فاز فيصل خرتش، بجائزة الطيب صالح (المركز الأول) عن روايته (أهل الهوى) عام 2018.

شاهد أيضاً

عبد الحميد عبد الله.. الشاعر الذي لا تعرفه المهرجانات

كلنا نعرف أن الإبداع حالة فردية، لذلك ترى المبدعين فرادى، وانصاف الموهوبين تراهم جماعات، شلل …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *