“حطّم سيفك.. واحمل معولك واتبعني.. لنزرع السّلام والمحبّة في كبد الأرض”، أسمح لنفسي أن اقتبس هنا من هذا النص الأوغاريتي لأجعله: “حطّم سيفك.. واحمل عقلك واتبعني….إلخ”، لماذا؟ لأننا بأمس الحاجة إلى الوعي، لأننا بدونه سنتخذ المعول سيفاً في أية لحظة، ولن نفهم أنَّنا نحن السوريون، جميع السوريين منذ أن وُجدنا ونحن ضحايا، لأنفسنا، للجهل، للتخلف، للخرافة، للجنون، للتاريخ، للجغرافية، للإعلام القذر، للمال السياسي، للأيديولوجيا، للاستعمار، للاستكبار، للاستبداد، للقنابل الذكية، للقنابل الغبية، ولكل هواة القتل على هذه الأرض، لم يوفرنا أحد منهم، ولن!
إنَّ مشكلة الأيديولوجيا الشمولية المركبة في المجتمع السوري؛ والتي فرضتها عوامل عديدة وترسخت مع استيلاء حزب البعث على السلطة في البلاد؛ والذي أسس لحكم شمولي قام على جمع “أيديولوجيات” عدة في مجتمع متنوع ومتعدد ومتخلف، تكمن في الخلط الذي لم يُفلح في إنتاج “أيديولوجيا” جديدة تلائم الحالة السورية التي يعكس بعض قتامتها تفتت المجتمع وتشظيه الذي نشهده منذ سنوات، بل فضَّل النظام إبقاء محكوميه يدورون في فلك رؤية جلاوزته الذين يتمظهرون بأشكال وصفات ومناسبات مختلفة، وأجبرهم أن يظلوا أسرى لهذه الرؤية التي لم يكونوا شركاء حقيقيين في صناعتها، أو اختيارها حتى؛ فهم من وجهة نظره غير مؤهلين لذلك، وهو لم يؤهلهم بدوره للقيام بمثل هذا الدور، وبالتالي لم يستطيعوا التعبير عن أنفسهم عبرها أو يتطوروا في ظلها أو حتى يفهموها، ولم تنتج لهم في المقابل هوية وطنية جامعة تُذيب “ثآليلهم” وتهذب أخلاقهم، بينما كان العالم يعدو من حولهم، وهم يعيشون على مهلهم في ظل نظام سلطوي أبوي قمعي يستنزفهم، فكانوا ضحاياه إلى أن دار الزمن وصار ضحيتهم.
لقد حاول نظام الحكم الشمولي طيلة خمسة عقود في سوريا جعل السوريين نسخاً متطابقة عن بعضهم البعض في محاولة لتحدي الطبيعة البشرية عبر أيديولوجيا شعبوية قائمة على مغازلة الحشود بتبني تطلعاتها العابرة للحدود وبوصلتها بطبيعة الحال فلسطين، أمَّا البوصلة الداخلية فلطالما عانت من تداخل مغناطيسي أثر على عملها وجعلها تائهة بين أحزاب متشظية ومخصية، وأجهزة أمنية قمعية، ومعارضات تجتر تجربة السلطة في إطار سعيها لتكون هي السلطة أو شريكة لها، ورغم ثبت فشل التجربة بصيغتها الأولى أصر على المضي بها حتى النهاية، وإن أخذت البلاد إلى الهاوية، وقد أخذتها.
مع مرور الزمن اهترأت مكنات الحكم الشمولي ونال منها الصدأ ولم تعد تنفع معها الصيانة، ورغم ذلك أصر المشغلون على الاستمرار بذات النهج، لكن انتهاء العمر الافتراضي لمكنات الأدلجة المتمثلة بـ”الأحزاب، الإعلام، الثقافة، التعليم..”، أفرز جيلاً شب عن الطوق لكن إلى حين، لأنه لم ينج بدوره من الوقوع في فخ مكنات أيديولوجية متطورة وأكثر حداثة، أخذته حيث تشاء هي، ولعبت به اللعبة ذاتها فأوهمته أن هدفها تمكينه من تحرير بوصلته الداخلية بتبني تطلعاته ظاهرياً، فكانت شريكة فاعلة في دفع البلاد وأهلها إلى الهاوية.
في ظل كل هذه التداخلات بين الأيديولوجيات الشمولية المركبة التي تفرضها بطبيعة الحال تركيبة المجتمع السوري، يرفض كثيرون أن يفهموا أننا يجب أن نكون مختلفين عن بعضنا البعض، هذا ما ينبغي أن يدركه ويعيه كل عاقل، لأنه ومنذ لحظة الخلق الأولى، اختار الخالق بصمة أصابع خاصة بكل مخلوق عاقل تميزه عن الآخر، لكن هناك بصمة دماغية تميز الأفراد أيضاً، وهذه يعبر عنها الفرد العاقل بأشكال كثيرة، إلا أن كثر يرفضون ذلك، ويُصرون كما كان يصر نظامهم على جعل الآخرين نسخاً متطابقة عنهم، وهم لا يكتفون بعدم الإيمان بالاختلاف أو احترامه؛ بل يتنمرون على الآخر المختلف الذي يرفض الدخول معهم في مكنات الأدلجة الجديدة، وإن اضطروا لإرهابه أحياناً بغية جعله نسخة عنهم، ولا يهتمون كما كان النظام إن كانت هذه النسخ المنتجة مشوهة، لأن ما يهم الأيديولوجيون الشموليون غالباً هو الكم وليس النوع.