الرئيسية » رصاص حي » سوريا والهوية الضائعة!
لوحة للفنان السوري محمد العلي

سوريا والهوية الضائعة!

خمسون عامًا من الحكم الدكتاتوري تركت أثرًا عميقًا على الوعي السياسي للسوريين، فلم يكن هناك مجال حقيقي لنشوء ثقافة سياسية حرة، باستثناء قلة قليلة تمكنت من فهم تعقيدات الواقع. ورغم بعض المحاولات القصيرة لبناءِ ديمقراطية ناشئة، إلا أنَّ هذه الجهود انتهت مع وصول حافظ الأسد إلى السلطة، لترتسم معالم سوريا الحديثة تحت حكم فردي شمولي شديد المركزية.

قبل ذلك، لم يعرف السوريون حقًا معنى الحياة السياسية الحديثة والتطور الذي رافق العالم في نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين. فتاريخيًا، كان السوريون يتبعون قادتهم دون وجود هوية سياسية واضحة تجمعهم، فمنذ سقوط الدولة الأموية، ظلت سوريا تائهة بين الولاءات المختلفة، تارةً تحت الاحتلال العثماني بلا هوية وطنية مستقلة، وتارةً أخرى خاضعة للاستعمار الأوروبي.

مع سقوط الأسد، وجد السوريون أنفسهم فجأة أمام مشهد سياسي لم يعتادوه، فانخرطوا بالكامل في الجدل السياسي دون أن يكون لديهم أساس متين لفهم تعقيدات الحكم وإدارة الدولة. أصبح لكل فرد رأي وموقف، وهذا في حد ذاته مؤشر صحي على مجتمع بدأ يخطو نحو الديمقراطية. لكن المشكلة الحقيقية تكمن في أن معظم هذه الآراء تطرفت، حيث بات السوريون جميعًا – بدرجات متفاوتة – يميلون إلى التطرف في أفكارهم ومعتقداتهم، سواء أكانوا إسلاميين، علمانيين، قوميين، أو غير ذلك.

يمكن تفهم هذا التطرف في سياق الأحداث الكبرى التي عصفت بسوريا، من التمدد الشيعي المدعوم إيرانيًا، إلى التدخل التركي، إلى الحذر العربي في التعامل مع الأزمة السورية. كل هذه العوامل جعلت السوريين في حالة من الاستقطاب الحاد، بين من يرى في الماضي نموذجًا للحكم، ومن يريد إسقاط كل ما كان وبناء نظام جديد بالكامل.

لكن أكثر ما زاد الوضع سوءًا هو غياب الدولة الفاعلة، فالتطرف لا ينمو إلا في غياب القانون والمؤسسات. لا توجد محاكم تحاسب، ولا دستور يحتكم إليه الجميع، ولا دولة قادرة على فرض النظام. في ظل هذه الفوضى، أصبح السوري قادرًا على فعل ما يشاء طالما امتلك القوة، وإن لم يكن يملك السلاح، فهناك منصات التواصل الاجتماعي التي أصبحت ساحة معركة بديلة، حيث يمكن لأي شخص أن يصنع هويته المزورة ويفرض رأيه بالقوة الافتراضية.

لقد تحولنا إلى مجتمع لا يقبل الخلاف، نريد من الجميع أن يكونوا نسخًا عنا، وإلا وجب عليهم الاختفاء أو الموت. بات الحوار معدومًا، والتعددية مرفوضة، والانتماءات الضيقة طغت على الانتماء الوطني. وهنا يكمن الخطر الأكبر: إذا لم تتعامل الدولة بجدية مع هذا الواقع، وتنشر ثقافة الاحترام والانتماء لسوريا كدولة وليس كطوائف أو أيديولوجيات متناحرة، فإننا لن نكون مجرد حمام مقطوع المياه، بل بركة دماء يتقاتل فيها السوريون من أجل أفكار متطرفة لا تقود إلا إلى الدمار.

من يظن أن التطرف سينتهي عند العلويين والسنة، أو الأكراد والعرب، فهو واهم. حتى داخل الطائفة الواحدة هناك انقسامات، وبين أبناء المدينة الواحدة هناك صراعات. لا يزال النزاع قائمًا بين الحمصي والحموي على حلاوة الجبن، وبين الدمشقي والحلبي على المحاشي والكمون، وبين الطرطوسي والجبلاوي على هوية الساحل. فكيف سيكون الحال إذا زادت حدة التطرف؟ هل سنصل إلى مرحلة يقتل فيها الحموي الحمصي من أجل “الحلاوة”؟ أو يكره الحلبي الشامي بسبب خلاف على البهارات؟

التاريخ مليء بالأمثلة على المجتمعات التي غلب عليها التطرف، ولم يكن مصيرها سوى العزلة والدمار. المجتمعات التي لا تقبل الاختلاف تبقى عاجزة عن التطور، فالانغلاق الفكري والتطرف السياسي لا يصنعان دولًا، بل يقودان إلى الحروب والانقسامات. سوريا اليوم تحتاج إلى عقلانية في الطرح، وتسامح في التعايش، ونظام حكم يضع الجميع تحت مظلته دون إقصاء أو تمييز.

إذا لم تدرك السلطة والشعب معًا خطورة المسار الذي نسير فيه، فإننا لن نتوقف عند حدود العنف السياسي، بل سنجد أنفسنا أمام صراعات داخلية لا نهاية لها. والنتيجة لن تكون سوى مزيد من التشرذم والدمار، في وقت يحتاج فيه السوريون إلى بناء دولتهم من جديد، لا إلى الغرق في دوامة التطرف والاقتتال.

مجلة قلم رصاص الثقافية

عن عدي إسماعيل

عدي إسماعيل

شاهد أيضاً

الغجر ليس لهم وطن، وحين يتعرَضون لأزمات يقولون: إنَّ أرض الله واسعة

الغجري ليس له أرض، إنَه يتنقَل حيث يطيب له المقام، وهو لا يدافع عن شيء، …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *