الرئيسية » ممحاة » عالبال… الذي يفقد

عالبال… الذي يفقد

لا تسجل الأمكنة توقيعها على ذاكرتنا إلا حين نفقد موسيقاها، نبتعد عن منظر الكراسي والخشب المعتق ورائحة العيون الشهية. ترقّب خلف أحواض النبات الخائف، وشباك يطل على صالون كبير في أعلى زواياها لوحة لعتاب حريب اسمها (فيروز). وجوه دمشقية ترتب الطاولات بضحكات عذبة. نمر فوق الهواء البارد لأيام السنة الأولى، وأظافرنا تحفر في جدران الطريق الضيق، هنا نعي لضحايا الحرب بأعلام خضراء وصفراء بعيدة عن علم البلاد.

تسمع أحاديثاً عن ريفٍ خطفوا غوطته، عن صبايا وسط سوق الحميدية رفعن رايات حمراء ضد قتل السوريين وحولهنّ تهطل قصاصات مخنوقة للحرية. لا تبحث عن الحقيقة في بلاد الضيق و العيون الرقيبة، اعبر إلى مقاهي الحارات الشامية واخلع العاصمة عن قلب النزيف، تلك صور متسارعة للهاربين من أنياب الطغاة.

تستعير باب توما من دمشق حزنها وترشق به أبراج الكنائس وتطوق وحشة المآذن، موعد لثقل الكلمات على ناصية الطريق المرصوف بالحجارة السوداء، نبحث عن عنوان لوجوه الغياب عند أبواب البيوت التي حالت مقاهٍ على إتساع الجراح، تشدو أغنية (ليال الشمال الحزينة) في قصيدة (إسوارة العروسة) و موسيقى (لما عالباب بنتودع) تسقط أناشيد (وحدون) حيث يتقاسمها أهل الضحايا الذين اعتبروا أن كل واحداً من موتاهم “شهيداً”!

لا الأيادي تلتقي في بريد الهجرة، ولا المواعيد المنقوشة على الرحيل تذكّر أهلها بالأصابع الضائعة، هناك عند مفترق الوحشة سوف يغني غرقى اللجوء على فتت سور دمشق القديمة، وهم يتنفسون الكارثة على الفضائيات، بينما هناك في مقهى (عالبال) يحتل زاوية ما جندي متطوع برتبة طائفته وإلى يمنه طاولة لعاشق يقسم لحبيبته أنه سوف يتزوجها ويلمّ شمل قلبها ليرقصا معاً في شوارع برلين.

قرب باب المقهى يقف طلبة الجامعة يحتارون أين تحلّ بهم دروب آلام الحواجز والموت ورسائل الرعب الطويلة، هنا فوق الطاولة المربعة الصغيرة في عمق المقهى سوف يركنون إلى عيون بعضهم وفي الخاطر يرن جرس الخلاص: وأخيراً أخذنا جوازات سفرنا!

كاتب وشاعر سوري 

عن عمر الشيخ

عمر الشيخ
شاعر وصحافي سوري. يعيش في قبرص. أصدر ثلاث كتب شعرية، وعمل في إعداد البرامج التلفزيونية والإذاعية والتوثيقية في سورية. يكتب في الشؤون الثقافية لعدد من الصحف والمواقع الإلكترونية العربية.

شاهد أيضاً

مع ستيفان زفايج

يبدو لي أن الكاتب النمساوي ستيفان زفايج هو الأكثر اهتماما بمتابعة خيبات الحب، وأثرها في …