ركبتُ من الأمام قرب ميلاد وأبو ميشو، يتقاسمان كأس الشاي الكبيرة الموضوعة على التابلوه، بعض حبيبات السكر ملتصقة بحافة الكأس المليئة أقل بقليل من حافتها، ظرف الشاي يستقر في أسفل الكأس كمرساة سفينة، ماركة “تمارى”، استغربت! أما يزال مصنع تمارى ينتج الشاي المعبأ في أكياس حتى الآن؟ أم أنه من بقايا مخزون قديم يعود لفترة (ما قبل ما حصل)؟
لا توجد سنّ واحدة في فم ميلاد، فمه مزموم على سيكارةالسيدرز التي يدخنها، جلده أسود من أشعة الشمس التي حرقته وهو يقطع الطريق ذهاباً وإياباً بين باب توما وجرمانا على مدى السنوات، تجاعيد وجهه حفرت أخاديدها العميقة فيه، تساءلت عن عمره فلم أستطع تحديده، قد يكون أصغر مما يبدو بكثير.
أحب مراقبة التفاصيل الصغيرة حين أركب من الأمام، تسحرني الأشياء المعلقة على المرايا الأمامية، هذه المرة كان يتدلّى منها صليب صُلِبَ عليه مسيح ٌ أغبر.
خدا أبو ميشو غائران تماماً، لم أنتبه لأسنانه، فقد كان يجلس قربي تماماً راشفاً من كأس الشاي كي لا ينكبّ على المطبّات.
شكى ميلاد من أحد أصحابه، وتوعّد أنه سيلاقيه غداً عند أحد المفترقات مع أصدقائه، أما الخلاف فكان على “كرسي” للسيارة حسب ما فهمت، لا يريد إعادته لميلاد ولا يريد دفع ثمنه أيضاً. شكى ميلاد لأبي ميشو أنه أحضر الكرسي من معلولا خصيصاً حين اعتازه ذلك الصاحب، وها هو ينكر الجميل.
وفوق ذلك كله تبيّن أن هذا الصاحب خبير في النصب، فقد كاد ينصب على ميلاد بمئة ألف سورية كاملة حين اشترى سيارته من أبو جاسم الذي ما أن قام عن سجادة الصلاة حتى اعترف لميلاد بحقيقة صاحبه:
– اعتبر السيارة صارت إلك وبسبعمية، بس اعريف إنو صاحبك يللي معك ما بيريدلكالخير..
فوجئ أبو ميشو بحقيقة هذا الصاحب الذي (طبّق) أبو جاسم بأن يطلب (تمانة ونص) ثمناً للسيارة، خمسون ألفاً تنزل على البازار أما المئة الأخرى فيأخذها هذا الصاحب لنفسه كومسيوناً لأنه أحضر زبوناً خاروفاً لأبو جاسم، والحديث هنا يدور عن ميلاد.
ميلاد يسرد الأحداث منفعلاً، لكن أبو ميشو يقاطعه باستمرار ما أن يرى راكباً في الطريق:
– حمّله ميلاد..حمّله..
– ما في محل وين بدي حطّه؟
يجيب ميلاد.
فاستنتجت أن أبو ميشو لا بد أن يكون سائقاً أيضاً من ذاك النوع الذي لا يمانع أن يتحول الركاب إلى “مكدوس” في سيارته، على خلاف ميلاد، الذي لم يُحمّل راكباً زائداً عن طاقة السرفيس والركاب المحشورين فيه.
– ليك..هدول عم يعبّوا بالغالون..
– بالرجعة بعبّي من الكازية..
يجيب ميلاد الذي ظل يحمد طوال الطريق محاسن أبو جاسم الذي استقبله في منزله ووضع العشاء له حين إتمام صفقة السيارة.
– حمّله ميلاد..
– قولك الكازية فيها بنزين؟
– فيها بس هنن كذابين ما بدّون يبيعوا..
وأثناء العشاء علم أبو جاسم عن الصعوبة التي حصل بها ميلاد على الـ (السبعة) خاصته، والتي لا يملك غيرها لشراء السيارة.
– حمّله..
ويرفض ميلاد كالعادة.
استأذن أبو جاسم للصلاة لحلول موعدها، وما أن عاد أفشى حقيقة هذا الصاحب.
وما يزال هذا الصاحب مَديناً لميلاد بألف ليرة أكلها عليه لحين نزولي السرفيس في ساحة باب توما.
2 أيلول 2013
موقع قلم رصاص الثقافي