على سبيل التقديم:
يقف محمّد البوعزيزي أمام مبنى الولاية. يتخيّل للحظة وهو يقف تحت الشّمس أمام عربته أنّ له حصانا. يفرك عينيه. يتأكّد أنّ الحصان أمامه حقّا. فيخاطبه قائلا:
القصيدة:
اللّعبة اكتملت. أعدني يا حصاني للشّعوب لكي أرتّب أولويّاتي مع الغيمات والسّمرات وأحجار الطّريق وردّني لطفولتي. أتأمّل الغدران وألقط الزّيتون خلف الطّير. يضيع نجم كلّ ثانية هنا ويموت برق. كيف لي أن أفهم الطّاغوت أنّ الوقت فات؟ وكيف لي أن أقنع الظّلمات أنّ الخوف مات ولن يعود.
خذني بعيدا حيث كنت إلى حروفي دون ضوضاء. أبادل نجمتي برسالة أو قبلة وأمدّ ضوئي في الظّلام بجملة وأقول كن للياسمينة وهي تنبت وحدها وتهزّ غيمتها الطّريّة نحو شرفتها لتدفع في دمي أسرارها وأقول كن لقماشة الأضواء فيّ فتهرع الكلمات من عتماتها لتعدّ لي سكنا هنا. خذني بعيدا كي أرى شجري الذّي كسروه ينبت مرّة أخرى هنا. يسقيه من دمه الشّهيد.
ما من بعيد هاهنا. ما من بعيد. الضّوء يشرب مثل كوب الماء والحلم مثل الضّوء يولد ثمّ يخبو ثمّ يجري مثل طفل في الضّواحي نفسها والعدل مثل زهيرة البرقوق يولد فكرة ويسير بين النّاس. كالرّؤيا نصير بلحظة ملاّك هذا الضّوء. نصير أحرارا. نقول لغيرنا من كائنات الأرض كونوا مثلنا. كونوا.. فيكون في العدم الوجود.
خذني بعيدا كي أرى جسدي قبيل فراقنا الأبديّ. تعلم قبل ليل الحرق مأساتي. أبادلك الشّقاء ونحن نرسم بسمة عمياء في ظلمائنا. تتذكّر الأبيات حقّا يا حصاني كلّها. لو كنت تدري ما المحاورة اشتكيت إليك همّا ليس أثقله دموع أخيّتي وأخيّتي الأخرى وأمّ لم أكن برّا بها من قبل إلاّ بالوعود.
هيّا لنمض نحو نفس السّوق نقترض الخضار بلا نقود مرّة أخرى معا. وغدا إذا بعنا نسدّد أجر ما جلنا به الحارات. ندفعه على عرباتنا غصبا بلا ترخيص من بلديّة جارت. غدا نعطي لأعوان التّراتيب المخطّط كي يمدّوا في الضّلوع فسادهم وليقتلوني إن أرادوا. إنّ في قتلي بدايات الوجود.
تفتكّ لي الميزان. تفتكّ ميزاني نعم؟ وتقول لي للمرّة العشرين إنّي مخطئ في حقّ جمهوريّة لم تعطني حقّا سوى الجولان دون نتيجة خلف الرّدى. أمضي وبي خجل وقد نزعته منّي قسوة الأعوان. “زن بردفيها خضارك يا محمّد”. أقول في سرّي وأمضي. ليس يسمعني سوى فجر إنسانيتي وهو يرزح تحت نير العجز والأعطاب. “زن خضارك هكذا بيديك وفكّر بميزان جديد”.
أنا أيضا أريد مثل غيري أن أرى أمّي بخير وأزوّج الأخوات. تلك رغبتي البسيطة. لا أفتّش عن سماء كي أفرّق بين ساقيها زؤان وجيعتي. لا أرتّب موعدا للطّير كي يندسّ وسط فجيعتي ويوزّع الأشلاء. لا أفكّر في مسوخ أفسدت وجه السّماء وعطّلت سفن الغيوم. تلك مشكلة ربّما فكّرت فيها حين تشرق في جحيم حقيقتي أنشودة لم أستطع كتمانها. أنا أيضا أريد مثل غيري أن أمدّد فكرتي في الضّوء لكنّي وحيد.
سوف تصعد من رمادي الشّمس. أومن بالقصيدة. ليس بالجلاّد. وأعمل. لا أطالب بالحياد ولا أسابق مثل غيري طواحين الرّياح ولا الرّياح مثل آلاف الجياد. حاولت. تلك حقيقتي. صعّرت خدّي بل ضربت وما هزمت. هزمتهم بحقيقتي. أضأت ليلهم بلحمي. لم تكن نار إبراهيم بردا. لم تزل عنّي سوى جسدي. وها أحدّق من رمادي في البعيد.
أحدّق يا حصاني في البعيد وأحتمي بغيومه. تلك معجزتي الأخيرة. أتفهم يا حصاني؟ لست موسى لأسير فوق الماء ولا عيسى لأمدّ روحا في العصا. أنا في غد طير. روائح جنّتي تمتدّ في الأرجاء وفكرتي كفني ولي في هذه الأرض الصّغيرة موطئ. قبر نعم سيصير بعد الموت نهر محبّة ولي أمّ تمدّدني متى شاءت على قطن المياه ولي رفاق لم يموتوا بعد يرونني ضوءا وأحسدهم على أضوائهم. أنا في غد طير نعم وأجنحتي القصيد.
لو أنّ لي حبّا تراني كنت أدفع للحريق حقيقتي؟ قد متّ مرّات ولم أحرق. قميصي عاد من خمسين حربا سالما. لا عشب خلد كي أفرّق في الحقول مشاعري للطّير. لا بردي لأكتب تحت ظلّ قصيدتي قدري. أنا حرف صغير في جداريات هذا الوقت. حرف صغير لا يكاد يرى لكنّه يؤوي حضارات الدّنى. أنا في غد طير. أطير ولا يراني الطّير. أضيء ولا يراني الضّوء. أطلّ على الذّرى وغيوم أسطوريّتي تهمي عليّ بمائها وضيائها. أنسى نعم بعض الذّي أوتيت لكنّني أتذكّر الإنسان يخرج من يديّ إلى الوجود.
اللّعبة اكتملت وصار الضّوء لي. صرت برقا يا حصاني وصار نهر تأمّلي يجري ويجري دون منع. صرت أسرع يا حصاني منك في لجم الزّمان وصار لي أن أوقظ الأيّام من إغفائها الأبديّ. أعيد للكلمات سحرا كان فيها ولأمّي بسمة كانت لها ولعمري قوّة الإعصار كي يختار حاضره. هل عشت حقّا قبل موتي؟ هل كان لي صوت تطلّ أسطره من الظّلمات؟ هل قلت حقّا ما يضيء الكون قبل قيامتي؟ أنا ضلع هذا الكون، ضلعه المعوجّ. لا حوّاء. مدّتني يد عمياء من أعماقها لتعدّني بشرا. يد عمياء مدّتني على طين الغوايات. مدّتني بعيدا. شممت حقّا كلّ شيء. لم يضمّخ باطني بالشّهوات. ظللت محروما. تمضي أمامي ممكنات الكون. فاتنة تمرّ ولا تمدّ لي اليد. اليوم لا لكن غدا. يمرّ حولي كلّ شيء وأنا أشدّ يد الصّدى عبثا وأفترش الرّدى.
رؤياي أكبر من حقيقتي البسيطة. لم أعد بشرا. دعوني هاهنا أرنو إلى جسدي العظيم. أستعيد اللّحم والأعصاب والجلد المشقّق والغيوم وأستعيد اللّيل نفس اللّيل بسواده ووعيد سجّانيه. أحنّ حقّا هاهنا للسّوق لفادية التّي افتكّت الميزان منّي ذات يوم، لسائقي العربات، لبنت ربّما فكّرت فيها كي تشاركني سماء دون أرض. متّ حقّا كي أرى صوتي يمهّد الثّورات للأحياء وها أطلّ لكي أرى.. ستعود فادية لنفس السّوق أقوى. هي التّي صفعت مرارا لا أنا. هي التّي حرقت مرارا لا أنا. هي التّي افتكّت بضاعتها مرارا لا أنا. هي زبدة النّظم التّي تهتمّ بالإنسان. أمّا أنا فجحيم هذا الكون. بوجهي صفعت كفّيها. نعم، أزعجتها بصداقتي للطّير. آلمتها بحفنة الغيم التّي خبّأتها للغد في جيب سروالي. مسمار النّظام المعدنيّ بلحمنا باق والآلة العمياء تفتح في ضمائرنا دوائر رحمة بيضاء واللّيل نفس اللّيل يدفن مرّة أخرى هنا ويعود.
صرت ضوءا. لم أقل شيئا لأرمى مثل آدم بالخطيئة بل رنوت نحو ضوء الشّمس حرّا. لم ألم أحدا. حرمتهم من رؤيتي وفتحت أعينهم على حجم الحقيقة. أنا لم أمت. فالسّواد هو الحقيقة كلّها حيث لا عنقاء تخترق العوائد لا رؤى تهتزّ لا شجر تراكس فوق أضلعه الطّيور. لا شيء لي. لكن معي جسدي. معي بدايات الوجود.
اللّعبة اكتملت. وداعا يا حصان الخوف. وداعا يا حصاني. أسريت بي لقصيدة أخرى وعمق آخر. رأيت صوتي في عيون النّاس. رأيته بيتا لثوّار وأنغاما لأطيار. لست أفهم يا حصاني كيف صار الحرف أروع في عيون النّاس؟ أسرينا معا أنا وأنت إلى السّماء. علوت بي فعلوت حتّى لم تعد لتشدّني للأرض أمراس. لمست ظهري فوجدت أجنحتي تطول. أسريت بي وعلوت فوق علوت بي فرأيت خلفي الضّوء يصعد ثمّ يصعد نحونا. أنّى نظرت وجدت ضوءا تونسيّا يا حصاني خلفنا. أنّى نظرت تراه في بردى وفي السّودان وفي الجزائر والكويت وفي عمّان وفي ليبيا وفي دول الخليج.. أنّى نظرت وجدت ضوءا تونسيّا في المدى ولمست ينبوع الخلود.
مجلة قلم رصاص الثقافية