الرئيسية » رصاص ناعم » « تشوه »..قصة قصيرة

« تشوه »..قصة قصيرة

بيان أسعد مصطفى - موقع قلم رصاص

بيان أسعد مصطفى |

رصفتُ له الطريق بعينيّ، عبّدته بتلألؤ أحسه يمر فيهما، كنت أرى الهواء شاحباً كصوت بائع الخضراوات بجانبي، وكلون السماء، وكلون وجه تلك العجوز التي مرت بمحاذاتي، وحركة تلك الفراشة حين سقطت على كتفي لتأخذ انتباهي بدلاً منه. مريضة هي الحياة وقد أوحت لي بهذه المشاهد والتي كما تبين لي فيما بعد أنها كلها حقيقية! تصيبني بالاشمئزاز هذه الحياة… و بالكاد تتعبه.

كنت ُ ذاهبة إلى صديقتي التي كلما نكبر سنة واحدة أجدها تخفي وراء ظهرها فرحاً وترى وجهي مقابلها يخبئ ابتسامات كثيرة، ويدي يملؤها عقدٌ أو فرحة مجزأة… وكل مرة نجد الحياة قد نضجت أكثر وخطانا قد غيرت وجهتنا والماضي قد ضاق علينا…

أشفقتُ عليه وهو ينقل قدميه بواسطة عكازين من حديدٍ، ومن حر الشمس و من فقدانه للإحساس بالحصى تحت قدميه…كم كان قاسياً بالنسبة لهما! وهشاً بالنسبة لكعب حذائي الجديد!

كنت أتدارك الوقت، في انتظار أن أرى صديقتي على الجهة المقابلة، وفي تجاوز هذا الرجل الذي لديه إعاقة في إحدى رجليه، حاولتُ كثيراً تجاوزه بسبب بطئه ولأنني أكره الانتظار، لكن مرور السيارات بجانبي كلما أضاءت الإشارة الضوئية ضوءها الأخضر كان يمنعني من ذلك بالإضافة إلى وجود ” بسطات الخضار” على جانبي وضيق الشارع.

تلاقينا قبالة هذه الفوضى اللعينة التي أغلقتها شبابيك المقهى الشفافة. يا لها من غريبة! لم اختارت هذا المكان اللعين؟! ولكن هذا لن يؤثر على فرحتي برؤيتها….سأقبل اختيارها هذه المرة.

كما تمقت أمي مزاجيتي الشديدة، كنت أمقت جهل صديقتي لهذه الصفة بي! ولكن كيف ستعرفها وأنا أغلب الوقت أظل مستمعة لا أشاركها الحديث؟! لاحظتُ ذلك عندما انتهى الموضوع الثالث وأنا أحاول تذكر حدثٍ مشوق أخبرها عنه.

نعم لقد تذكرت، سأحدثها عن العبارة الجميلة التي كتبها… آه من كتبها؟! حسناً سأخبرها عن اللوحة تلك التي أثارت انتباهي في المعرض البارحة… ولكن ما الذي أثار انتباهي إليها بالضبط؟!  سأحدثها عن ذلك الصحفي كيف ظلّ ينظر إليّ من بعيد وأنا أشتري لها باقة الورد، ولكن ماذا حصل بعدها؟ لا لا سأخبرها عن صوت البيانو الجذاب في حفل توقيع صديقي الشاعر الشاب الذي ما عدت أهتم بحماقاته. لا… كنت سأخبرها عن عازف البيانو. ترى ما الذي لفت نظري إليه يومها؟!  لقد نسيت فعلاً…لا أتذكر أي شيء من هذا! يا إلهي!

أوقفتُ الشرود و استسلمتُ لسرد قصصها بتفاصيلها الدقيقة جداً التي تجعلني أملّ، وصرت كلما تابعتْ أكثر أقنع نفسي بقوة ذاكرتها..وكرهتُني وقتها لعدم قدرتي على تذكر أشياء مشتركة بيني وبينها كما هي تفعل الآن.

عازف البيانو! نعم إنه هو! وقفتُ فجأة وحدّقت به، يا إلهي كيف لم أعرفه؟! ركضتُ مسرعة نحوه وظلت صديقتي تراقبني من النافذة بذهول، ما زال في الشارع الضيق وقد توقف في انتظار أن يفسح أحدهم له الطريق. أبعدتهم عنه، ووقفت أمامه، ابتسمتُ وتعرق جبيني، احمرّ وجهي، لقد ارتبكت حقاً…ترى كيف سأعرفه بي؟! كيف يوضح المعجبون إعجابهم بشخص أمامهم؟ أي العبارات يستخدمون؟!

أنا تلك الفتاة التي كانت تقف بجانب لوحة (….) الرسام الجميل الذي دائماً ما يخبئ في لوحاته كلها قداسة الوطن وكل مرة بلغة مختلفة، كنت أرتدي فستاناً أزرق ووشاحاً أصفر، اقتربت منك عندما انتهيتَ، ابتسمتُ… وقلتَ: “من السهل أن يكون المرء عميقاً، يكفي أن يستسلم لفيض ثغراته الخاصة”، وقلتُ لك فوراً: إميل سيوران وأنت جعلتماني أدرك معنى العمق، وأدرك أيضاً أن “المياه كلها بلون الغرق”، وأن أية نظرة طائشة من شخص مغرور لا تساوي عندي شيئاً، ووقتها حدثتك كثيراً عن ذلك الصحفي الأبله الذي صارت نظراته نقمة عليه… لا أعرف لمَ أخبرتك بكل هذا وكيف بدأتُ؟! ولكن ما أتذكره حتى الآن أنّ الموسيقى التي صنعتها أصابعك كانت جميلة جداً وحقاً أعجبتني..

توقفتُ عن الكلام فجأة، نظرتُ إلى صديقتي، ثم سألته: من أنا؟!

كاتبة وقاصة من الأردن | خاص موقع قلم رصاص

عن قلم رصاص

قلم رصاص

شاهد أيضاً

رولا عبد الحميد تقول: إنها تجلس وحيدة في حضرة المحبوب

يقوم نص الرواية على حكاية حبَ بين حبيبين لا يلتقيان أبداَ، يدقَ قلبها، وتشعر بالاضطراب …