لبنى أبو الخير |
1 ـ الفضاء ضيق لا يتسع سوا لبعض الأغراض كالكتب وغيرها
فتاة جالسة (يعني أنا) وهي تدخّن، بعدها يبدأ الكلام:
كنا ثمانية معاً ..نتقاسم امرأة جميله
كنا عليها كالقبيله ..
كانت عصور الجاهلية كلها
تعوي بداخلنا ،
وأصوات القبيله ..
كنا ثمانية ..
وكان البدو فينا يصرخون ..
ويرقصون على الوليمه
كنا نعبر عن فحولتنا ..
فوا خجل الفحوله ..
كنا ثمانية إذن ..
ووجوهنا ..
كانت مربعة الخطوط ومستطيله
كنا نهاجمها كثيران ..
وكانت تقبُّل الثيران صابرة ذليله ..
كنا نمزمز لحم نهديها ..
ونفترس الطفوله ..
ونردد الأشعار والحكم القديمه :
(( إن مات منا سيد .. ))
كنا نرددها بإعجاب ،
ونفرك في شواربنا الطويله…….
دمشق 2008
(نعلّق لوحة مكتوب عليها 2008)
أمي أنا أدخن وأكلت كف، بالنسبة لإلي عادي لإنو حسيت بوقتا إنو هو مجرد كف من باب الواجب، إنو لازم أمي تضربني، بس في الحقيقة هي بتعرف إنو الدخان مو عيب بس لازم تضربني كرمال ضل هي المسيطرة، ولإنو من العادات والتقاليد إنو البنت اللي بدّخن تنضرب.
– 2008 أول سنة بشم فيها ريحة إنسان ميت، ريحة بوقتها كانت فاضحة لكل شي سيء ومو منيح، بس بوقتا أنا كنت بشوفها مجرّد ريحة بشعة ولازم تروح لإنو عم تخنقني.
– أمي شو هاد؟
-هي جيفة!!
– شو يعني جيفة؟
-يعني جثة ميتة إلها زمان
وبدأت الريحة تتصاعد مع الأيام لحد ما خنقت كل أهل الحارة، كان في بنت ميتة ببيت بالحارة و ماعرفنا ليش!!
برأيي موهون الظلم، الظلم إنو كلمة جيفة اسم مؤنث لفطه أنثوي، والظلم الأكبر إنو قالوا عنها إنها شرموطة بس ماحدا بيعرف ليش، بس هيك لازم.
ريحة هالبنت اللي خنقت العالم.. واهل الحارة.. وخنقت إمي.. وخنقتني.. وخنقت المخفر اللي هو بعيد عن الريحة شارع، طلعت بالأخير ريحة شرموطة، بس أنا بعرف إنو الشرموطة كل الناس بتحبها، و بكل الأحوال اذا كانت ريحة المرا طيبة ولا بشعة، إذا بتحط عطر أو ما بتحط بقولوا:
شرموطة…
لكن الجواب الوحيد لحادثة الموت المجهول اللي صارت هو: مابعرف! متل مو هنن كمان.. إمي وأهل الحارة والمخفر مابيعرفوا غير إنو إذا بنت ماتت لحالها فهي شرموطة.
2008 أول مرة بتجي فيروز على الشام كل العالم اللي حضرتها بكيت لإنو عم يشوفوا فيروز، أنا كنت عم إبكي لإنو لازم إبكي في غمرة الحميميّة الشعبيّة.
2008 دمشق عاصمة الثقافة العربية دخلت معلمة اللغة العربيّة المبهرجة للغايّة إلى الصف وخصصت حصة كاملة للحديث عن نزار قبّاني قالت بابتسامة عريضة:
كنا ثمانية معاً ..
نتقاسم امرأة جميله
كنا عليها كالقبيله ..
كانت عصور الجاهلية كلها
تعوي بداخلنا ،
وأصوات القبيله ..
كنا ثمانية ..
وكان البدو فينا يصرخون ..
ويرقصون على الوليمه
كنا نعبر عن فحولتنا ..
فوا خجل الفحوله ..
أوّل مرّة سمعت فيها القصيدة ورحت واتأكدّت إذا هي لنزار قبّاني، حسيت برغبة كبيرة بالبكاء لإنو أنا بعرف نزار قباني نصير المرأة وما بيكتب هيك شي مؤذي، هيك علّمونا، وهيك لازم نعرف ونتعلّم.
ما بتذكّر بوقتها كتيير تفاصيل بس بتذكّر إنو الآنسة اتقلّعت من المدرسة وإنو أنا انصدمت و صرت أتخيّل مشهد إنو الجيفة اللي كانت بحارتنا قتلوها ثمانيّة رجال شواربهون متل شوارب سيلفادور دالي، حتى ما كنت بعرف إنو هدا سيلفادور دالي بس كان علقان منظره براسي لإنو شواربه مميّزين.
بهديك السنة 2008 كانت الواجهات.. الطرقات.. الحياة.. كانت كلها باللغة العربية، حتى اللي اسمها أجنبي كان مكتوب بالعربي بس بلفظ أجنبي حتّى في محل بعرفو بضّاعته كانت موجّهة لفئة معيّنة من النساء، أي طبعا النساء مقامات اسم المحل you dont know، طبعا صاحب المحل الذي لا يعرف، التزم بالقرار الصادر وكتب يو دونت كنو، يعني متله متل الباقي.. هو مابيعرف شي؛ كانت شوارعنا عربيّة، و حياتنا عربيّة وأغانينا وأشعارنا و…… إلا مسارحنا حيث مرآتنا وروحنا كانت فرانكفونيّة، حيث لم أفهم ولم نفهم وقتها من نحن.
2 ـ الشمس.. عام 2000
أتأمّل الشمس، عمري عشرة سنوات، أتأملها حصرا في الأوقات الماطرة لأنو بتطلع خفيفة، ما بخاف على عيوني منها، وبطلع عليها بشكل مباشر، و هي وراء الغيوم، بتأملها فقط بس تغيب لأيام، متل ما بتأتأمّل الأشياء التانية بس أخسرها.
الشمس بتفضح كل شيء وبتمنع الفضيحة هي الوحيدة القادرة على ألا يجتمع ثمانية رجال على إمرأة جميلة.
الشمس مرّة أخرى:
في صباح يوم صيفي في قريتي، أنا حزينة وفي لمعة غريبة مغريّة بعيدة عني أمتار، ستي قالت لا تروحي لهونيك هدا سحر هلق بيبلعك.
نعم كل أهل الضيعة بخافوا من الأشياء وقت تلمع، بخافوا تبلعهم بيفكروا انها سحر أو جن.
رحت بدون ما يشوفني حدا، وبدون خوف بلاقي قطعة معدنية تنعكس عليها أشعة الشمس بقوّة هي قطعة نقود أثريّة، هيك قلي رجال مسك ايدي فجأة وانا عم شيل القطعة من الأرض، وقال:
– الافضل أنو تخبيها..
أنا: شو هي؟
- قطعة رومانيّة أثريّة وما لازم حدا يشوفها معك
- يعني نحنا أصلنا روماني
- أي
بلشت أحك رجليي بطريقة ساكنة و فرحة واطلع على الشمس، و حاول أنو اعمل انعكاسات، متل ما شفتها اول مرة وهي عم تلمع، صرت جمّع الضو على القطعة وإلحق ستي في وفعلا خافت يومها.
3 ـ بعد سبع سنوات
عم اطلّع على الشمس، أمي تصرخ، أحدهم يقول أبوك مات
بجلس على الكرسي.. ما بعمل شي بس بحرك ساقي اليسار بسرعة لأنو ما عندي ردة فعل تانية، و لا عندي الرغبة بالبكاء حاليا.
منبدا نستقبل التعازي أحداهن بتوجه ملاحظة لتحريك قدمي بسرعة
- ما بصير تعملي هيك
- شو أعمل
- ابكي
- مو قدرانة
- قولي أي شي العالم مفكرتك مبسوطة
بشلح المنديل الأبيض عن راسي، وبطلع لبرا بطلّع على الشمس، وبضل اطلّع واطلّع حتى تحمر عيوني وتدمّع، برجع لجوّا بشوف الرضا على وجوه، انبسطوا لإنو بكيت.
4 ـ أنا لست جميلة
هي الحقيقة لازم تعرفيها، أنفك كبير، عيونك كبيرة، شعرك أسود، تمك صغير، هذا غير مطابق لمقاييس الجمال.
هي الكلمات سمعتها بس ما زعلت، بس خلتني عيش تناقض فظيع حوّلني لإنسان ضعيف، وصرت اتمسّك بأي حدا بقلّي إنت حلوة، وشو ما يطلب منّي لبّي الطلب بس المهم ضل عم اسمع كلمة: “انت حلوة”
انت حلوة.. انت حلوة.. انت حلوة.. وقف كل يوم قدّام المرايّة وقول هي الكلمات، لحد ما طلع حدا بحياتي وخبرني: “انت ما بتكوني حلوة إذا كنت بنت.. لازم تكوني مرا بكل معنى الكلمة”
صرت مرا.. بس مرا حزينة نامت مع ثمانية رجال بإسبوع واحد ليقولوا لها إنت حلوة.
بعد فترة المفعول السحري للكلمة وقف وبطل.. ما عم شوف حالي حلوة أبدا
أنا لست جميلة.
5 ـ أمّي
أمي أنا مرايتيها.. كل شي كان برغبتها تعملو بحياتها انا عم أعملو بس.. بدون إرادتها، يوم بعد يوم صارت تتطوّر العلاقة وتصير أم بتكره بنتها، مو غيرة أبدا.. هي حسد.. هي حقد على الخمسين سنة مرّوا بحياتها بدون ما تعمل أشياء بتحبها؛ تركت البيت لإبعد عن العلاقة الصعبة، بعدها أمي صارت حزينة بشكل مخيف لإنو مرايتها اللدودة مو موجودة؛ أو بمعنى أصح حقيقتها بعيدة عنها.
رجعت على البيت.. صرنا نحكي مع بعض بحذر.. و مرّت سنة وهي عم تحيّك صوف وأنا عم احرس الحزن تبعها بصمت مع سيجارة مسروقة ونبيذ من نوع سيء.
6 ـ بدايات.. 2011
أوّل قبلة
أوّل دهشة
أوّل موت
أوّل صديقة
أوّل صديق
أوّل فستان
أوّل شغل
أوّل قلم حمرة
بدايات.. بتخلق تفاصيل وذاكرة ممكن تكون حلوة وممكن لا، الأهم إنو هي بتصنع وجودك كإمرأة ضمن فقاعة المجتمع التافه، بس اللي بيصنع وجودك كإمرأة هو الصوت العالي و الحريّة.
أوّل مشهد كتبته بحياتي كان بسنة الـ 2011 بغمرة ما يحدث في دمشق من مظاهرات، طلب منّا استاذ مادة السينما كتابة مشهد عن ظلم المرأة في مجتمعنا؛ بعدها بإسبوع الطلاب جايين وعم يتباهوا بين بعضهون مين كاتب أكتر من التاني، ومين مشهده أطول، سألوني قلتلهون مشهدي عبارة عن خمس سطور فقط، وكان في همس بيناتهون بيوصفوا فيه فشلي على اعتبار إنو الكتابة بتنقاس بوحدة قياس المسافات، المهم كان المشهد:
الوقت: نهارًا.. في أقسى لحظات الحر، وأكثر ساعات الشمس عامودية
المكان: حافلة نقل عموميّة
الشخصيات: طفلة بعمر السنة/ إمرأة شابّة شاحبة/ رجل شاحب غير شاب/ أناس آخريين
القصّة: قصيرة واقعيّة تحدث كل يوم بشكل معتاد
فتاة تبكي بدون سبب أو لأنها تشعر بشدة الحرارة، لا أحد يكترث لبكاءها.. تزيد من البكاء حتى يتصاعد صوتها لدرجة غير محتملة.. أباها ينظر إليها بغضب.. والآخرين ينظرون بغضب. الأم الشابّة الشاحبة تضع راحة يدها بقوّة على فم الطفلة وتدخل الحافلة كاملة في ذلك النفق المظلم الطويل.
بوقتها كان أوّل شي بكتبه بحياتي وبحس في وبوقتها أخدت اعلى علامة، لسبب بسيط إنو الألم اللي جواتنا كبشر وكبنات واضح وبسيط وعلني وسهل وبصير كل يوم متل شرب المي.
ألمنا وغضبنا واضح متل أوفيليا وكلمات أوفيليا:
أنا أوفيليا من قلب الظلام
تحت شمس التعذيب
أنا أوفيليا التي لم يحتفظ بها النهر
المرأة المقطوعة الشرايين
انا المرأة المخنوقة بالغاز
بالامس توقفت عن قتل نفسي
أنا وحيدة بين أثدائي وأفحاذي
أشرع الأبواب لأستقبل الريح صرخات العالم
وأهشم زجاج النوافذ
بيدي الداميتين أمزق صور الرجال الذين أحببتهم
والذين استخدموني على الكرسي وعلى السرير وعلى الطاولة
أشعل النار في سجني وأرمي ملابسي فيها
ثم أخلع الساعة التي كانت في قلبي من صدري
ثم اخرج إلى الشارع ملتفعة بدمي
هامش:
(قرأ هذا النص في زيورخ – سويسرا بدعم من مسرح سبيكتاكل في نيسان 2016 ومنحت صاحبته إقامة فنية لتقديمه)
كاتبة سورية | خاص موقع قلم رصاص