الرئيسية » رصاص ميت » أنا الذي رأيت

أنا الذي رأيت

يوسف دعيس |

محمد جاسم الحميدي المثقل بالحزن دائماً، الانعزالي الذي استعاض الفضاءات الواسعة بديلاً عن صمته المطبق، صمت العارف الذي يحيلك دائماً إلى تمثال المفكر رودان، أو بصورة تقريبية إلى تمثال أبو الهول، الصامت والغامض، الذي يشي بمعرفة عميقة ومتجذرة بمحيطه، مجسداً مقولة “أنا الذي رأيت”.

ربما تكون الحادثة المأساوية، ومشهدية الموت أمامه وهو يشهد احتراق أمه، أمه البسيطة المفعمة بالخير تحاول المساعدة في إطفاء سيارة مشتعلة أمام بيتهم، محمد الصغير الذي يلعب إلى جوارها، يرى بعينين شاخصتين، كيف يذوب الجسد، الحضن الدافئ الذي كان يضمه، ويغيب معه في ملكوت السماء، الآن يتهاوى أمامه في لحظة، ستكون فارقة في حياته، ربما ستحيله إلى صمت سيظل مرافقاً له طوال حياته، وسيشكل هذا المشهد المؤلم مفصلاً في حياته، وعلامة من الحزن لا تفارق عينيه أبداً.

رغم صمته وانعزاليته المفرطة،وما يملكه من حياء متأصل تجده حاضراً بين المثقفين، وعارفاً بتاريخ الرقة وجغرافيا المكان الذي يعيش به، الكل يعرفه، لكن الكل هذا يمر عابراً في حياته، فهو يكتفي بثلّة لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، هم من يستأثرون على صداقته، ورغم قلّة الأصدقاء، فهو يملك رصيداً كبيراً عند كل أهل الرقة، فالجميع ينظر إليه باحترام ومودة عالية، عندما توطدت معرفتي به، لم يكن في سجل أصدقائه سوى تركي رمضان وأحمد المصارع وتميم العيسى وعمار المصارع وإبراهيم الجرادي، الذي كان الغائب الحاضر دائماً في جلساتنا، اقتحمت هذا العالم مع أول قصة كتبتها، وتشاركت معه بالفوز في مسابقة البتاني للقصة القصيرة، ومن يومها لا يكاد يمر يوم إلا ويكون حاضراً معي.

رغم أن معرفتي بالحميدي تعود إلى عام 1977 وكنت أزوره مع صديق لي، وهالني منظره في اللقاء الأول وهو يغوص بين الكتب، فهمت خلال الجلسة الأولى أنه يعد لرسالة ماجستير عن الخيول العربية، وأنه يهتم بالتراث، ويكتب القصة القصيرة، وعندما خرجت من بيته، أبديت إعجابي به أمام صاحبي. وأخذت معرفتي به منحىً جديداً مع إصدار العدد الأول من جريدة الفرات في غرّة عام 2004 حيث كان لي الشرف في ملازمته كمحرر مساعد له في مكتب الرقة.

لم نكتفِ بالعمل ضمن حدود المكتب، بل خرجنا إلى الشارع، وكنّا نحاول رصد هموم الناس ومشاكلهم، وربما بما أملك من طاقة اجتماعية، هيأت الظروف الملائمة لخروجه من عزلته الطويلة، وانطلقنا إلى خارج حدود الرقة في محاولة لاكتشاف المكان، وربما تكون معرفته بتراث الرقة وإرثها التاريخي مقدمة لكتابة تاريخ الرقة المجهول، تاريخ الإنسان الأول، والحكاية، والعمارة، تاريخ الكهوف والمغاور والوديان والينابيع والأنهار.

بدءاً من هذه الأيام شهدت ولادة مجموعته القصصية الأولى القاشور، ثم رواية “شمس الدين”، ثم إصدار تحقيقه لكتاب “الجراثيم في اللغة” لابن قتيبة، ثم كتابه الذي كرّس جهده له “نحكي ألا نام” الحكاية الشعبية الفراتية في مجلدين كبيرين، وكان قد أصدر قبل ذلك كتاب “الرواية ما فوق الواقع” بالاشتراك مع شقيقه الدكتور أحمد جاسم الحميدي، وشارك في مجموعة “الدم ليس أحمر”، التي أشرف عليها الدكتور إبراهيم الجرادي. وكتاب التطور اللغة العربية والأخطاء الشائعة.

الحميدي كان موهوباً بالفطرة، يكتب القصة بتميز، وتتجلّى لغته المفعمة برائحة المكان في روايته “شمس الدين”، التي لم يلتفت إليها النقاد أبداً رغم أهميتها في المشهد الروائي السوري، أما أهميته في العمل الإعلامي فتبدو واضحة في رصد معالم الرقة، وربما الزوايا التي كان يكتبها تؤكد على موهبته المائزة في التقاط مفردات الحياة اليومية وقراءتها بطريقة مختلفة، ولعلّ الزاوية التي تحمل في طياتها الذاتي، هي ما تجعله مختلفاً ومتميزاً عن الجميع.

حكاية محمد جاسم الحميدي، حكاية حزينة ومؤلمة ومؤثرة، حكاية مكتوب عليها أن تكون فاجعة كرحيله المفاجئ، والصامت كصمته الأبدي، وما يحمله من ألم متجدد، يكاد لا يفارقه أبداً، وربما كرحيل أمه الفاجع..

وداعاً صديقي، سأفتقدك دائماً، لكني متأكد أنك ستكون حاضراً في قلبي.

صحفي وقاص سوري / تركيا | خاص موقع قلم رصاص

عن قلم رصاص

قلم رصاص

شاهد أيضاً

أيمن ناصر … انطفأ قنديل آخر

رحل الفنان التشكيلي والنحات والروائي الفراتي أيمن ناصر إثر صراع مع المرض في مدينة أورفا …