حسام قصي شراباتي |
بانَتْ سُعادُ فَقَلْبي اليـوْمَ مَتْبولُ مُتَيَّمٌ إثْرَها لم يُفْدَ مَكْبولُ
إِلاّ أَغَنُّ غضيضُ الطَّرْفِ مَكْحُولُ وَمَا سُعَادُ غَداةَ البَيْن إِذْ رَحَلوا
بهذه الأبيات افتتح الشاعر كعب بن زهير قصيدته – والتي سميت فيما بعد بقصيدة “البردة”، و كعادة الشعراء العرب و الجاهليين منهم على وجه الخصوص تفتتح القصيدة بذكر المحبوب و التغني بجماله، ثم يكمل الشاعر أبياتاً طويلة ليصل الى الموضوع الرئيسي الذي نظم القصيدة لأجله :
تَسْعَى الوُشاةُ جَنابَيْها وقَوْلُهُم إنَّك يا ابْنَ أبي سُلْمَى لَمَقْتولُ
فَقُلْتُ خَلُّوا سَبيلِي لاَ أبا لَــــكُمُ فَكُلُّ مـــا قَدَّرَ الرَّحْمنُ مَفْعولُ
أُنْبِــــــــئْتُ أنَّ رَسُـــــولَ اللهِ والعَفْوُ عَنْدَ رَسُولِ اللهِ مَأْمُولُ
أَوْعَدَني وقَدْ أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ مُعْتَذِراً والعُذْرُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ مَقْبولُ
و بالعودة الى القصة التي جعلت من الشاعركعب بن زهير، أن يطلب العفو من النبي، فتذكر المراجع الإسلامية أنه كان لكعباً أخاً يدعى “بجير” قد دخل دين الإسلام، فراسله كعب موبخاً له على فعلته هذه واستحثه على الرجوع عن دينٍ لم يكن عليه أحداً من أبائه، ثم هجاه شعراً و هجا النبي كذلك فطلب النبي من اتباعه “بأن اقتلوه و لو تحت أستار الكعبة”.
و مع انتشار الإسلام في شبه جزيرة العرب و دخوله “مكة”، ضاقت الدنيا بالشاعر، و بالأخص بعد تلك المراسلات التي جرت بينه و بين أخيه “بجير” و الذي أخبره بأنها النبي قد قتل العديد من الشعراء الذين هجوه، و منهم من هرب فاراً هائماً في بقاع الأرض.
لذلك ما كان من كعب إلا أن طلب من أبو بكر الصديق أن يتوسط له عند النبي ليعفو عنه، بعد أن سمع أيضاً بأن النبي قد تاب على العديد من الذين أتوه تائبين، الأخير طلب منه أن ينظم قصيدةً يطلب من خلالها الصفح من النبي.
وفعلاً دخل على النبي على أنه إعرابي و ما أن قال شعره حتى أدرك النبي أنه كعباً، فقبل توبته و خلع عنه العباءة التي كان يرتديها و أعطاها له، و لتلك العباءة أو البردة قصة طويلة في التاريخ الإسلامي لسنا بصدد ذكرها الآن.
هذه القصة و غيرها من القصص التي وصلتنا عبر المراجع و الروايات الإسلامية تجعلنا نقف محتارين أمام العلاقة المتلبسة بين الدين الإسلامي و بين الشعر و الشعراء.
فهناك العديد من الروايات التي قيلت على لسان النبي عن الشعراء قد يكون من أشهرها التي قيلت عن زهير بن أبي سلمى و الذي يعد من أعظم الشعراء الجاهليين و هو أيضاً والد الشاعر كعب بن زهير
زهير عند بداية الدعوة كان يبلغ من العمر 90 عاماً، قال النبي عنه: “اللهم أغثني من شيطانه”.
و أيضاً لا يمكننا أن ننسى القصة الشهيرة و التي من بين طياتها نستدل على قوة الحالة الشعرية في شبه جزيرة العرب و على مكانة الشعر بين القبائل، ملخص القصة أنه عندما جاء قوم من اليمن ليبايعوا النبي تاهوا في الصحراء فاسترشدوا عن الطريق بأبيات كتبها امرؤ القيس، و عندما وصلوا قالوا للنبي: “لولا امرؤ القيس لهلكنا”
فكان جواب النبي :
“هو مشهور في الدنيا، و مغمور في الآخرة، و هو قائد الشعراء إلى جهنم”
طبعاً لا يخفى على أحد، مدى عظمة وقوة و متانة شعر امرؤ القيس، لكن ما الذي يدفع النبي ليصفه بذلك القول؟
أظن أن هناك تفسيرين لهذا الأمر، فهو إما بقول ركب على لسان النبي من خلال كتب الأحاديث و السير و التي تحوي العديد من المغالطات و التي ببحث غير استثنائي يمكن للقارئ العادي أن يكتشفها و ذلك لمغلطتها المنطق البشري أو لمغالطتها التاريخية، و التفسير الثاني بأن النبي فعلاً قال ذلك لأسباب قد تكون مبررة من الناحية السياسية لقائد يحاول أن يبني دولة على المستويين الديني و السياسي.
لمحاولة معرفة الأجوبة و التفسيرات، علينا دراسة الحالة الثقافية التي كانت تسود منطقة الشرق في تلك الفترة و التي يمكن فصلها إلى داخل شبه الجزيرة المعزول بشكل أو بأخر خارج شبه الجزيرة العربية، بلاد الشام – بلاد ما بين النهرين – مصر، سكان تلك المناطق كانوا يملكون حالة ثقافية تختلف إلى حد بعيد عن داخل شبه الجزيرة .
نظراً لتوالي الحضارات على تلك المناطق، و لاحتكاك سكانها في فترة نشوء الدين الجديد و قبله بعشرات السنين و اعتمادهم على الثقافة السريانية و اليونانية جعلتهم منهم قادرين على تكوين منتج أدبي – فني يمكن الوقوف عنده.
أما في داخل شبه الجزيرة، و نظراً لكون تلك المنطقة معزولة عم حولها، نجد أن الحالة الثقافية لديهم مقتصرة على الشعر و كانت هناك أماكن تجمع الشعراء كسوق عكاظ مثلاً.
حتى أن القصائد العشر الأفضل كانت تعلق على جدران الكعبة و هنا نرى مدى أهمية الشعر لدى سكان تلك المناطق، تلك الأهمية التي أوصلته إلى حد “القداسة” و من تلك الكلمة – يمكن أن نجد أن موقف الإسلام و النبي من الشعر و الشعراء، موقفاً منطقياً، لكونه موقفاً مبني على الخوف من المنافسة على القداسة و أيضاً لما له من دور في الحشد الرأي الشعبي لكون الشاعر كان سفير قبيلته و لسان حالها.
لكن، و في ذات الوقت عملية استئصال تلك الحالة الشعرية أو بترها بالمطلق ضرب من المستحيل . فكان الحل هو الوصول إلى صيغة مهادنة و تأطير، بحيث يسمح للشاعر أن ينظم قصائده في مدح الإسلام و نبيه. تلك الحالة التي جعلت من بعض الشعراء و أخص بالذكر (حسان بن ثابت) و الذي يندرج تصنيفه باللغة العربية على أنه شاعر مخضرم لأنه عاصر فترتين زمنيتين هما الجاهلية و الإسلام.
بن ثابت في الإسلام كان شاعر النبي و كان بلسانه و شعره سيفاً في وجه كل من ينظم قصد الذم أو الهجاء، و بدراسة الحالة الشعرية لدى حسان بن ثابت، نرى أنه لدى تأطيره كشاعر النبي قد خسر الكثير من قوة شعره و متانته، وهذا مثال لشعره قبل الإسلام:
أسألت رسم الدار ام لم تسألـــــــــــي بين الجوابي والبضيع فحومـل
لله در عصابة عصابـــــــــــــــــــــــة يوما بجلق في الزمــــــان الأول
يمشون في الحلل المضاعف نسجها مشي الجمال الى الجمال البزل
بيض الوجوه كريمة أحسابهـــــــــــم شم الانوف من الطـــراز الأول
لقد شربت الخمر في حانوتهــــــــــــا صهباء صافية كطعم الفلفـــل
نسبي اصيل في الكرام ومــــــــــذودي تكوى مواسمه جنوب المصطلي
أما بعد إسلامه نرى اختلافا كبيرا في شعره عما ما قبله:
الله ا كرمنا بنصر نبيــــــــــــــه وبنا أقام دعائم الإســـــــــــلام
وبنا اعز نبيه وكتابــــــــــــــه وأعزنا بالضرب و الإقـــــدام
في كل معترك تطل سيوفنـــــا فيه الجماجم عن فراخ الهام
ينتابنا جبريل في أبياتــــــــنا بفرائض الإسلام والإحكــــام
يتلو علينا النور فيها محكمـا قسما لعمرك ليس كالأقســام
قول أغلب النقاد إن شعر حسان الجاهلـــــي أقوى من شعره الإسلامي في كل قصائده فقد طرق حسان أكثر الأغراض الشعرية فقد شبب ومدح وهجا ورثا ووصف وافتخر وفخر وحكم مثله مثل كل الشعراء الجاهليين، و لا يتطلب أن يكون القارئ عالماً في الشعر و بحوره ليرى التباين الكبير بين القصيدتين.
خلاصة القول أن الإسلام منذ اللحظة الأولى لنشوئه حمل معه ردة فعل سلبية تجاه الشعر و الشعراء، و التي قد يكون لها مبرراتها من وجهة نظر إسلامية، لكن لا يمكن تبريرها أبداً من وجهة نظر إنسانية، فلولا الشعر و الشعراء لما وصلتنا أخبار و سير العرب وتاريخها.
مخرج سينمائي ـ سورية | خاص موقع قلم رصاص