نزلت من باص النقل الداخلي فوق جسر الرئيس، كان ما يزال لدي بعض الوقت الذي استطيع أن أفعل به ما أشاء قبل وصولي إلى المسرح. بردى يجري تحتي، هزيلاً وبطيئاً يتحرك بالكاد. كم هي جميلة قباب التكيّة من الأعلى.
هبطت الدرج المؤدي إلى فضاء ما تحت الجسر. نزلت الأدراج بتمهل كي لا أقع، أعقاب سجائر لا تحصى مرمية على الأرض، بعضها قد أُطفئ قبل وصولها إلى الفلتر البني المائل للصفار. على فسحة الدرج الأولى كان هناك بائع يقرفص قرب بسطته المتواضعة، مسابح ملونة ذات (دناديش) تستلقي بانتظام دقيق على خرقة من قماش. أكملت نزولي، من الجهة اليمنى كما تفترض قوانين السير، رجل صاعد لا يلتزم بقوانين السير مثلي كاد أن يصطدم بي. على الفسحة الأخرى للدرج فوجئت بمجموعة من الأطفال يستريحون في مساحة ضئيلة من الظل. حاولت أن أهرب بعينيّ منهم، فقد بتّ في الآونة الأخير حساسة جداً تجاه المتسولين المتكاثرين في شوارع دمشق. كلما رأيتهم أشعر بانقباض في صدري.
سرت على الرصيف الموازي للمتحف، وحين حاذيت شباك التذاكر لم أر تلك اللائحة المألوفة بأسعار بطاقات الدخول للعرب والأجانب والطلاب والعسكريين. بدت التماثيل التي أُحضرت من تدمر كئيبة تحت أشعة شمس الظهيرة، ولا تُذكّر بأي مجد من الأمجاد، فها هي مسجونة خلف قضبان السور، محرومة من بهجة العيون الفرحة برؤيتها.
تساءلت إن كان المقصف ما يزال يعمل وتذكرت انطباعات صديقتي التونسية إكرام حول زيارتها للمتحف منذ ثلاث سنوات مضت. حينها كانت إكرام خائبة من خواء المتحف، فكلما وقفت أمام واجهة ما، شاهدت بدل التحفة ورقة مكتوب عليها: “مُعار إلى البرازيل”، فاستنتَجت من كثرة الأوراق أن جميع معروضات متحفنا مسافرة في مهمة خارجية مفتوحة زمنياً، ولا يعلم أحد بتاريخ عودتها. يومها قلت لها عن قناعة تامة ومع حدس بوليسي أن موضوع البرازيل لا بد أن يكون تمويهاً لما هو أخطر من ذلك كسرقة العصر مثلاً، لكنها لم تصدقني.
يطلّ من يساري فندق الفورسيزونز كصرح معماري شاهق يضاهي بعَظَمة كتلته آثار تدمر الهزيلة المسجونة خلف سور المتحف. لا أحب هذا البناء مطلقاً، رغم أنه قد أسس ذاكرة دمشق الحديثة نسبياً في السنوات الأخيرة، ولا أظن أن أيّاً ممن ألف دفء الحارة القديمة التي امتزجت بأساساته الآن، وزار “مجلة الثقافة” الخاصة بمدحت عكاش، وطبع في ذاكرته صورة المصابيح القديمة المعلقة على جدران أبنية الحارة ورائحة الياسمين في إحدى أمسيات نهاية الصيف، سيحب كتلة الإسمنت هذه التي لا شيء يميزها سوى بلّور نوافذها الأخضر، وسيكرهها فور أن يعرف أنها استثمار خليجي وأن الأرض تحتها لم تعد ملكاً لسوري.
انعطفت يميناً نحو المتحف الحربي، أحب الصعود على الانحدار الطفيف لهذا الشارع وأحب أشجار الكينا العالية التي تسوّره من ناحية المتحف وفي الجهة المواجهة على الرصيف. قليلة هي أشجار دمشق عكس أبنيتها.
نزلت الدرجات. أذكر من طفولتي حنفية الماء في الجهة اليمنى من الباب، وأشتاقها، كانت مياهها باردة حتى في الصيف، وكنت أشرب منها كطقس أكثر من كونه عطش. لا أفهم لما ألغوا وجودها وحبسوا ذلك الجامع الجميل، الذي بات يذكرني بمسلسل “حريم السلطان”، وبركته الكبيرة المربعة خلف سور من حديد، اختفى البط، ولم أعد أستطيع الجلوس على حافة البركة كما كنت أفعل. مجرد حديد بشع من الجهتين. لم أر طيارة حرب تشرين ولا الكبسولة التي هبط بها محمد فارس المنشقّ إلى الأرض، ولا المدافع التي أخرجنا بها الاحتلال الفرنسي من بلادنا.
لا أحد غيري في سوق التكية بصفة سائح محلي ضَجِر. ما يزال بائع الجلديات في مكانه المعتاد كأول دكان على الجهة اليمنى، فرحت حين رأيته جالساً يدرز قطعاً جلدية على ماكينته. حرفي آخر لم يغادر البلد، على خلاف ذلك (العمو) الأخرس والأطرش اللطيف الذي يمتلك دكاناً لصنع الصنادل الجلدية في القيمرية. مررت بدكانه في أول الصيف وأوصيته على صندل فأخبرني بأنه سيستغرق بعض الوقت لصنعه لأنه في العادة يحضر الجلد اللازم من دوما، ودوما الآن منطقة خطرة يصعب الوصول إليها. انتقيت الموديل من كاتالوغ موجود عنده، ودوّن في دفتره القديم وبخطه (المفشكل) جميع المعلومات اللازمة عن صندلي الجديد. حتى أنه سألني إن كنت فلسطينية فأجبته بالنفي، وحين أخبرت أفين بأنني فتحت سيرة طويلة مع ” العمو” وأنا أوصيه على الصندل استغربت كثيراً وسألتني كيف فعلت ذلك وهو أخرس وأطرش في نفس الوقت فضحِكت.
لم أحصل على صندلي لأن العمو أغلق دكانه وصفّى تجارته وسافر إلى بيروت ليسكن عند أقاربه، أخبرني بذلك بائع الأراكيل في الدكان المواجه له حين سألته عن سبب الغَلَق المغلق في جميع أوقات مروري. “عمو” آخر يغادر دمشق، حاملاً معه أسرار حرفة تقليدية قديمة لطالما تسببت بقدر كبير من الفرحة لي وللسياح المتحولين إلى ذكرى كائنات منقرضة كالديناصورات في شوارع دمشق.
معظم دكاكين التكية مغلقة، عزّيت نفسي بأن اليوم أحد وقررت أن أعيد زيارتي في يوم آخر لأتأكد من شكوكي. وقفت عند واجهة دكان يبيع حلياً من الفضة، اشتريت منه قطعاً جميلة منذ سنوات وأحب تفحّص واجهته كلما مررت في السوق، فلم أجد سوى رفوف مغبرّة. غصصت. فقدت رغبتي في إتمام سياحتي الداخلية لكنني أكملتها لطالما وَصلت. من يدري متى سأمر من هنا مرة أخرى؟ قد لا أمر.
دخلت الباحة الصغيرة المؤدية إلى الجامع الصغير في منتصف السوق. زاد تحدّب الأرض في غيابي، وكأنها قباب أخرى تبرز من تحت الأرض.
على يسار المدخل طفل ضَجرٌ يجلس قرب بسطة فرد عليها كومة حجارة وبعض القطع الفضية، على يمينه دكان ما يزال يعلق فيه بعض الصنادل، لكن ليس كتلك التي كان يصنعها العمو في القيمرية. أغنية ” white flag ” لـ Dido تنساب مرتفعة من الدكان المواجه.
تذكرت الدكان الصغيرة التي كانوا يصنعون فيها الزجاج اليدوي فيما مضى، إنه مغلق الآن، توفي صاحبه ولم يبق من زجاجه البراق سوى الغبار. أتذكره حين كنت طفلة. كم يرتبط بطفولتي هذا المكان.
ألقيت نظرة سريعة على الباحة، سجلت في ذاكرتي الصورة الجديدة للمكان محاولة مقارنتها بالصورة القديمة التي كانت تضج بالحركة واللون، حاولت مطابقة الصورتين فلم أستطع واستدرت خارجة.
مررت بما تبقى من دكاكين الفضة، توقفت عند الواجهات، لم أكن أريد الفرجة، بل التنصّت على الأحاديث الآتية من الداخل، أحب أن أسمع ما يشغل بال الناس الآن.
لم يكن الحديث غريباً أبداً، كل ما هنالك أن قيمة الألف ليرة لم تعد تساوي شيئاً، ولا تكفي مصروف إطعام أرملة وأولادها لأسبوع، استنتجت من الحديث أن الرجل قد كفل عائلة محتاجة ما، لكن ما يقدمه لا يكفيها وهذا يزعجه.
قوس مخرج السوق مدعوم بدعامة حديدية خوفاً من تداعيه، على يساري ذاك المبنى الأثري التابع لوزارة السياحة، احترق منذ عدة سنوات لكنهم لم يكملوا ترميمه حتى الآن، فكرت بالمثل الذي قال: من برا رخام ومن جوّا سخام، فهو ينزل (حفراً وتلزيقاً) على ما شاهدته من ترميم.
يا لها من حيلة يقوم بها المتعهد، الواجهة الأمامية التي تطل على النهر في كامل زينتها أما من الخلف فمأساة كاملة. نوافذ مسدودة بالبلوك ومعظم الجدران الخلفية ما تزال عارية، لا أعرف هل استلموه على هذه الحال أم أن الترميم سيظل قائماً إلى ما شاء الله.
لم أنتبه لحال “سينما سيتي” لأنني قطعت الشارع إلى الجهة الأخرى قبل الوصول إليها، سرت على الرصيف الضيق أزاحم المارة وصولاً للتقاطع، انتظر صفارة الشرطي أو أحداً من المارة أتدارى به لأقطع الشارع إلى جهة البحصة.
على الرصيف قرب السواتر الإسمنتية بسطة كتب، لفتني كتاب عن حياة لينين يستلقي قرب حاجز للجيش فتش حقيبتي بحثاً عن أسلحة ثقيلة فلم يجد.
أتممت سيري صعوداً في شارع بور سعيد، الـ “MTN” تعج بأصحاب الفواتير، حاذيت بنك عودة، تسللت في فسحة صغيرة بين ساترين أسمنتيين في ساحة المحافظة، لم يفتشني أحد، يفتشون الداخلين فقط.
وصلت شارع 29 أيار، أصوات طقطقة بلياردو أو فيشة تندفع صاخبة من سينما السفراء، شممت أيضاً رائحة كثيفة لسجائر محترقة، على الرصيف بسطات لنظارات شمسية وطبية، ومقابلها محل يبيع نفس الشيء.
انعطفت باتجاه القباني، دخلت بهو المسرح واستمتعت بالرطوبة والرائحة المألوفة للمكان، ألقيت التحية على علي الذي أحضر لي كرسياً لأجلس، نظرت إلى ساعة الموبايل، ما يزال لدي ربع ساعة كاملة على بدء البروفة.
12 أيلول 2013
مجلة قلم رصاص الثقافية