هيا حسن العلوي |
كنت في الرابعة عشرة من العمر ، أبحث عن مقاطع مصوّرة لشاعر العرب الأكبر “محمد مهدي الجواهري” على اليوتوب ، وإذا بنظري يقع على قصيدة “سجل أنا عربي” لـ”محمود درويش” . كنت أجهل الشعر الحديث إلا القليل مما حدثني عنه والدي ..
تذكّرت لقاءنا بالشاعر “أدونيس” في أربيل ، وأخذت كلماته تسري في ذاكرتي :
جدي طريقاً منفرداً لنفسك واحذري من السير على خطى أحد وإن كان والدك أو عمّك “هادي العلوي” فاستمعتُ للقصيدة من منطلق الفضول والرغبة بالبحث عن أديب سيساعدني على تجاوز الجدار المعنوي الذي أقامه والدي والذي أبعدني عن الشعر الحديث بحجة أنه يصعب علي فهمه .. أخذني الاعجاب بتلك القصيدة لأن أسرع الى والدي المتكئ على أريكته وقد بدأ يسلم نفسه للنوم .
أيقظته على الفور وأسمعته القصيدة ، وجاء تعليقه الوحيد :
دعكِ من هذا الشاعر وابحثي عمن هو أكثر جدارة منه .
لم أجد منذ سنتين من هو أجدر من محمود درويش بالمحبة والادمان ..
إنه يبحثُ عن قلبه بين حبّاتِ الحصى ..
المتنبي وقف هكذا عند طللِ أهله وقال :
“بُليتُ بلى الأطلال إن لم أقف بها .. وقوف شحيحٍ ضاعَ في التُربِ خاتمه “
ولكن لا ، ما عاد يوسعه أن يرضى بالأطلال تجسيداً للحلم ..
في جنوب لبنان أدرك للمرّةِ الأولى ما هو الوطن . هو هذا الشيء الضائع ، هو هذه العودة المنتظرة . وحين عاد بعد عام ( 1949) الى ذلك الشيء الضائع أدرك أنه أصبح ضائعاً !
لقد دُمرت “البروة” ، قريته وهويته ، كان في صراع مع الطفل الذي تركه هنا في السابعة من العمر .. لقد أخذته الأرض إلى وعي مبكرٍ بالظلم وأدركَ أنه استبدلَ اللجوء في الغربة بلجوء في الوطن !
كان أصغرَ من هدف عسكري ، كان عليه أن يكبرَ ليتحوّل إلى قنبلة .. واذا به يعبر بين القنبلة والصلاة .. يبحث عن لون لعيني حبيبته التي استحق لأجلها الحياة ، ويحمل المصباح لكل بيتٍ فلسطيني قائلاً :
“كان يمكن أَلاَّ أكون مُصاباً
يجنّ المعلقة الجاهلية
لو أن بوابة الدار كانت شمالية
لا تُطلُ على البحر
لو أن دورية الجيش لم ترَ نار القرى
تخبزُ الليلَ
لو أن خمسة عشر شهيداً
أعادوا بناء المتاريس
لو أن ذاك المكان الزراعيّ لم ينكسر
ربّما صرتُ زيتونةً
أو معلِّم جغرافيا
أو خبيراً بمملكة النمل
أو حارساً للصدى “
كان هذا أسلوب محمود درويش في التعبير عن رفضه .. طريقته في الانفجار
من الأرض وإلى الأرض
يسأل :
“من أكثر حظاً يا أبي ؟ ذاك الذي أكل الشوك وواصل تربية الأرض ، أم ذاك الذي جاء إلى الأرض ولم يجد إلا الشوك ؟!”
ويستدرك :
“ما قيمة الإنسان
بلا علم
بلا وطن
ودونما عنوان
ما قيمة الإنسان ..”
فاختار أن يكون ابن عوليس الذي لجم الكواكب وانتحى أعلى الجبال ، مخاطباً الصخرة التي صلّى عليها والده :
“أنا لن أبيعكِ باللآلي
أنا لن أسافر
لن أسافر
لن أسافر ..”
كانت الأرض تنتصر في كل حواراته ، فيتمسك دائماً ب”لذّته القاتلة ” .
وعندما تحمله الحياة بعيداً ، تستفيق قشور البرتقال المختبئة تحت جلده ، ويخترق صوتُ والده موسيقى الكمنجات الحزينة إليه :
“الذي ما له وطن
ما له في الثرى ضريح “
فيخاطب أمه في المذياع :
“ماذا طبختِ لنا؟ فإنا عائدون
نهبوا خوابي الزيت ، يا أمي ، وأكياس الطحين
هاتي بُقولَ الحقل ! هاتي العُشبَ
إنّا عائدون !”
فيترك مقاهي باريس ولبنان ، ويعود ليحظى بحبّة عنب مسروقة من دالية عمِّه ، وليستمر بالمقاومة ..
درويش و “بن بلّة” وجنسية الاحتلال
هنا تبدأ المساءلة ..
لقد اكتسب جنسية إسرائيلية لكنه لم “يتهوّد” !
وكانت الحال أنه يجب أن يمتلك بطاقة مرور التي لم تكن “بطاقة هويّة ” .
وإذا خرجنا قليلاً من نطاق الشعر الى الثورة الجزائرية سنجد أن من قادوا الثورة ضدَّ الانتداب الفرنسي من الجزائريين كانوا بالاجماع يحملون جنسية وجواز سفر فرنسي !
فهل نتجرّأ على اتهام “احمد بن بلّة ” ورفاقه بخيانة الجزائر ؟
(كان هذا جواب والدي على سؤالي ما إذا كان التاريخ قد عرف أعلاماً حملوا جنسيات غير جنسيات بلادهم ، وأشار إلى أن رؤساء السلطات الثلاث في العراق حالياً يحملون جنسيات أجنبية ولم يتخلّوا عنها )
أما شاعرنا العربي ، فلم تكفي أيامه في السجن ونفيه من فلسطين ، ونداؤه بوجه المستعمرين :
” أيها المارون بين الكلمات العابرة
احملوا أسماءكم وانصرفوا
واسحبوا ساعاتكم من وقتنا وانصرفوا
وخذوا ما شئتم من زرقة البحرِ ورملِ الذاكرة
وخذوا ما شئتم من صورٍ كي تعرفوا
أنكم لن تعرفوا
كيف بيني حجرٌ من أرضنا سقف السّماء ..”
ومطالبته بحصار الحصار بعد سقوط القناع العربي الذي باع فلسطين ، لم تستطع أن تخفف من غلواء خصومه وبرغم ذهاب “منظمة التحرير الفلسطينية” إلى الحلِّ السّلمي وفقاً لاتفاقية “أوسلو” ، فقد احتجَّ محمود درويش معتبراً أن الاتفاقية تحمل الكثير من التنازلات للاسرائيليين ، وعبّر عن احتجاجه باستقالته من اللجنة التنفيذية للمنظمة .
من “شاعر الأرض ” الى “شاعر الإنسان “
يعتبر النُّقاد أن محمود درويش منحَ القضية الفلسطينية ، في مرحلة ما بعد عام 1982 ، طابعاً كونياً وكأنَّ العالم بما يحمل من تاريخِ وبُعد إنساني ومآس وأساطير جاء ليخدم معاني الشـــــاعر ..
وقد تجلّى هذا التطور النوعي في مجموعتين : “هي أغنية ، هي أغنية ” (1986) و “ورد أقل” (1987) ، ليتجاوز “شاعر الأرض” إلى “شاعر الانسانية” .
المرأة الأرض
كان يحمّل المرأة في قصائده أسئلة وجودية وثقافية ، ويضعها في سياق أوسع من موضوع غزليّ رافضاً أن تكون استعارة في النصِّ الشعري .. لذلك ارتبطت المرأة عنده بالوطن ..وكان علينا التساؤل ما إذا كانت المخاطبة في القصيدة هي الحبيبة الأنثى أم الحبيبة الأرض ..
ففي قصيدته “أنا آت إلى ظلّ عينيكِ آت ” أخذت الأرض شكل الأنثى :
“أنت
كل ما قيلَ عنكِ ارتجال وكذبة
لستِ سمراء
لستِ غزالاً
ولستِ الندى والنبيذ
ولستِ
كوكباً طالعاً من كتاب الأغاني القديم
عندما ارتجّ صوت المغنين .. كنت
لغةَ الدِّم حين تصير الشوارع غابة
ويصير العيون زجاجاً
ويصير الحنين جريمة
لا تموتي على شرفاتِ الكآبة
كلُّ لونٍ على شفتيكِ احتفال ..”
أما في قصيدته “عاشق من فلسطين ” ، فقد تقمصت الأنثى شكل الأرض:
“رأيتكِ في المواقد .. في الشوارع
في الزرائب .. في دم الشمس
رأيتكِ في أغاني اليتم والبؤس
رأيتك ملء ملح البحرِ والرّمل
وكنت جميلةً كالأرض ..”
هل نختار للشاعر حبيبته ؟
أما ريتا .. التي ظلت صورتها تأتيه بعد ثلاثين عاماً ، فكانت اسماً شعرياً لصراع الحب في واقع الحرب .
بين البنادق التقت روحاهما ،وبين البنادق افترق جسداهما إلى الأبد..
عندما كان المجتمع يسعى إلى مصادرة ما يملك الشاعر من رغبات وأحاسيس ، ظل درويش متمسكاً بفتاته البهودية إلى أن التحقت بالجيش الإسرائيلي ، فالتحق هو بقصيدته الوطنية وأبدع “سجل أنا عربي” .
لكن مارسيل خليفة ظل ينشد :
“قمري هاجر في الصبح بعيداً في العيون العسلية
والمدينة كنَّستْ كلّ المغنين .. وريتا
بين ريتا وعيوني بندقية “
الزواج الدرويشي
زواجه الأول :
مصادفة حضرت “رنا قباني” ابنة أخ الشاعر السوري “نزار قباني” أمسية لمحمود درويش في الولايات المتّدة بجامعة “جورج تاون ”
وإذا بدرويش يترك المنصة ويتوجّ إليها عند مغادرتِها القاعة لارتباطها بحضور دروس الرواية الفيكتورية .. فسألها ما إذا كانت تريد منه أن يأتي بشيء لعمّها نزار ، فهو مغادر الى بيروت في الصباح الباكر .
صحيفة الزمان