الرئيسية » يوميات رصاص » يوميات حرب طائفية أهلية بمحلية (7)

يوميات حرب طائفية أهلية بمحلية (7)

مررت راحة يدي أفقياً عدة مرات في الهواء بمعنى: (على جنب).. فتوقف.

فتحت الباب ونظرت داخله، إنها معادلة مستحيلة بالفعل، الناس جلوس فوق بعضهم البعض، وهناك شابان صغيران يقرفصان على أرضية الميكرو من الداخل.

يعترض الشاب الصغير:

– وين لسّا بدك تحمّل العالم يا أخي؟ مو شايف ما في محل؟

لم أُلق بالاً لاعتراضات الشاب، وطلبت من المرأتين المحمّلتين بالأطفال والأكياس والأمتعة الجالستين خلف الشوفير مباشرة:

– إذا بتزيحولي 4 سانتي بس بيمشي الحال..

قلتها بابتسامتي العريضة، فحركتا ردفيهما وانحشرتا إلى الداخل وجلست على الأربع سانتي التي طلبتها بالفعل.

أضبّ ركبتيّ إلى بعضهما في تنورتي القصيرة الضيقة، الشاب المقرفص أرضاً يغض البصر خجلاً. في السابق حين كنت أنام على جنبي وترتكي ركبتاي إحداهما على الأخرى لم أكن أشعر بعظامي، أما الآن فهي تضايقني لدرجة أنني أفصل بينهما أحياناً بمخدة حين أنام، 57 كيلوغراماً، ودون ريجيم، إنها إحدى الحسنات القليلة المكتسبة من الحرب، إضافة إلى السير في طرقات دمشق على القدمين.

الطفل الصغير بين يدي الفتاة الجالسة قربي لا يتوقف عن البكاء، لم أنتبه لملامحها جيداً حين جلست، ظننتها امرأة، لكنني الآن رأيت فتاة صغيرة تحمل لعبة عمرها شهر أو يزيد قليلاً، سألتني:

– أدّيش بدنا لنوصل لباب توما؟

– ربع ساعة أو أكتر شوي إذا تيسّر الحاجز..

تنهّدت الفتاة وهي تهز الصغير:

– جوعان يا قلبي.. من وقت ما طلعنا من المليحة وأنا مو قدرانة رضّعه..

سارت مع عائلتها (الشاب المعترض والشاب الآخر المقرفصان على أرضية الميكرو، المرأة التي جانبها والطفلتين المحشورتين في الزاوية عند النافذة) عبر المفرق الذي يصل المليحة بآخر جرمانا، قطعوا الحاجز هناك بسرعة بمعيّة الصبي الصغير، اسمه “حموّدة”. لا يخرجون من المليحة إلا بهذه الطريقة، لكنها تقول أن الوضع:

– الحمد الله.. منيح.. ما في مشاكل..

الحاجز مزدحم، نتقدم بمعدل سنتيمترات، امرأة سبعينية سمينة تفتح باب الميكرو وتصعد بتثاقل، الشاب المقرفص يعترض، المرأة تُبعد امرأتين جالستين على مقعد منفرد وتجلس قربهما مقابلنا.

عيناها زرقاوان صافيتان بالنسبة لعمرها الذي تفضحه التجاعيد العميقة في وجهها وحول فمها الذي من دون أسنان.

– خلصت القهوة من عنا يا يمّة.. طالعة عباب توما اشتريله للحجي..

قالت ذات العينين الزرقاوين للمرأة الجالسة قربها وهي تُخرج من عبها محفظة قماشية سوداء ذات سحاب معلقة برقبتها بشريط، أخرجت عشر ليرات بيدها ذات الأصابع المتشققة وأعطتها للفتاة:

– انطيّه يمه..

يصيح الشوفير وهو ينظر إلى القطعة المعدنية الصفراء المستقرة في راحة يده:

– الأجرة عشرين ليرة يا خالتي..

تتفحص الفراطة في يدها وتستبعد عن الكومة قطعة صغيرة منسية من فئة الليرتين وتصيح:

– طنعش ما بيمشي الحال؟

– لأ حجة.. عشرين.. بدنا نطلّع حق المازوتات..

ثم يغيّر حديثه موجهاً كلامه للشاب المعترض:

– شفت ليش عم طلّع هلعالم؟ لك وبالرجعة رح إعصى علحاجز ساعة ونص.. كنت عملت فيهون سفرتين..

يبكي الطفل مجدداً فتسنده الفتاة على كتفها وتطبطب على ظهره، تلتصق قليلاً بعد بأمها وتسألني:

– مرتاحة بالقعدة؟

أنا:

– الحمد لله.. تمام.. أحسن من الوقفة..

ذات العينين الزرقاوين:

– هاد أول بطن يمّه؟

– إيه خالتي..

تشير برأسها إلى الطفل:

– جوعان.. رضعيه..

– ما بقدر.. بس لنوصل عباب توما..

– أنا وقت يلي كنت بعمرك كنت طالع لولادي البز ورضّعهن.. هيك..

وتشير للفتاة أنها كانت تخبئ صدرها ورأس الصغير تحت إشاربها المنسدل على كتفيها.

تتشجع الفتاة أمام بكاء الصغير، تعطي الكيس الذي تحمله لأمها، فتعطيه تلك بدورها للمرأة الجالسة مقابلها، فالمكان أضيق من زنزانة منفردة. تحمل امرأة المقعد المقابل الأكياس بلهفة ودون اعتراض. نصف الكيس يستند على فخذ الحجة ذات العينين الزرقاوين.

يلتفت الركاب بوجوههم عنها كي لا يحرجوها، يغضّون أبصارهم، ينظرون في اتجاهات أخرى، عبر نوافذ موجودة أو غير موجودة سوى في أرواحهم، فهي تجلس مقابلهم وكأنها على خشبة مسرح، تُخرج حلمتها من فتحة ما بين أزرار قميصها وتخبئ وجهه بحافة قبة المانطو، تلقمه الثدي فيسكت على الفور.

نتعدّى الحاجز، ربع ساعة، نصف ساعة وربما أكثر حتى نصل لباب توما. لكن ذلك لم يعد مهماً أبداً، فـ “حمّودة” يرضع.

15 تشرين الأول 2013

موقع قلم رصاص الثقافي

عن آنــا عـكّـاش

آنــا عـكّـاش
كاتبة ومسرحية سورية، إجازة في اللغة الإنكليزية، إجازة في الدراسات المسرحية، دمشق، ماجستير في العلوم الثقافية وفنون العرض، تونس، عضو في اتحاد الكتاب العرب، وفي نقابة الفنانين، مؤسس فرقة "مراية المسرحية" 2017، عملت كمدرسة في المعهد العالي للفنون المسرحية، وعملت في المسرح القومي في دمشق كدراماتورج ومعدة ومؤلفة نصوص مسرحية وكمخرج مساعد، وفي السنوات الأخيرة بصفة مخرج مسرحي. سيناريست لعدد من الأفلام القصيرة والأعمال التلفزيونية السورية، إضافة لعملها كمستشار درامي في عدة أفلام سورية. تعمل في الترجمة من اللغتين الإنكليزية والروسية، إضافة إلى دراسات وأبحاث في المسرح أهمها "تاريخ الأزياء" و"الأصول التاريخية لنشأة المونودراما".

شاهد أيضاً

وللمُدُنِ مَذاقاتٌ مُختلفة كما فَاكِهة الجَنّات (3)

3 ـ الإسكندرية.. ويحدث أحياناً.. أن تقع في حُبّ مدينة. لم يكن حبّاً من النظرة …