على جسر المليحة، بين الردم المتراكم على أحد جانبيه، دبابة توجه سبطانتها نحو بيت مهدم نُصِب على سطحه سطل كبير يسيل منه دهان أحمر، تحت لافتة كبيرة لـ “دهانات أمية”. وفي الجانب الآخر من الجسر، وبين الردم أيضاً، مدفع من فصيلة الدوشكا أو أحد أقربائها غارق في الفوارغ فشكه، يبلغ طول الواحدة منها حوالي العشر سنتيمترات، تجمع حوله أثناء مروري بالسيارة ثلاث صبيان يسرقون الفوارغ خلسة عن جنود الحاجز المنصرفين إلى شرب المتة.
ذكرتني طلقات قريبة الدوشكا تلك بيوم من أيام الثمانينات في حماة، كنت صغيرة جداً، جمعت فوارغ طلقات مثلها تماماً، بدت لي حينها كبيرة جداً، لكنني صنعت منها أشجاراً بإلصاق ورق أشغال أخضر ككتلة أغصان على فوهتها العلوية حيث يركب جسم الرصاصة، ورصفت قربها جنودي البلاستيكيين ليستظلّوا بظلها يوم لا ظل إلا ظلها، وليتمتعوا بقيادة السيارات الصغيرة ماركة “ماجوريتي” و”ماتش بوكس”.
لا أعرف لم تذكرت بعدها حقيبتي المدرسية الأولى، حين كنت في الصف الأول، بنية مسطحة وبشعة، ذات قفل على شكل طقّة معدنية، ويد بلاستيكية سوداء، ومن شدة كرهي لها جمّلتها أمي بلصاقة نافرة محشوة بالإسفنج على شكل سرطان أحمر بملقطين مرفوعين، وعينين تهتز خرزتاهما مع حركة يدي وأنا ألوح بها في الطريق إلى مدرستي “سد الفرات”.. كان ذلك في مدينة “الثورة”، أو “الطبقة” منذ سنوات طويلة مضت كانت سورية حينها مشغولة ببناء الأمة العربية الواحدة ذات الرسالة الخالدة، ولم تكن المرأة وقتها ممنوعة من الجلوس على كرسي أو من ارتداء الجينز بفتوى شرعية، وكذلك من التدخين، رغم أن الأركيلة لم تكن دارجة حينها كما هي الآن.
تذكرت أيضاً يوماً آخر مشمساً ودافئاً من أيام الثمانينات، أخذونا باكراً من المدرسة إلى ساحة كبيرة على إحدى ضفاف السد، ووزعوا علينا تنانيراً كحلية مُكسّرة وتيشيرتات صفراء عليها شعار منظمة طلائع البعث، وبقينا نتمرن منذ الصباح على الهتاف التالي:
– حافظ… هونيكر… سوريا.. د د ر… حافظ… هونيكر… سوريا.. د د ر…
إلى أن بح صوتنا تماماً لحين وصول الرئيسين في زيارة إلى سد الفرات. لا أذكر أنني لمحت حافظ لكنني أتذكر جيداً صلعة هونيكر ونظارته، وحزنت في اليوم التالي حين أخذت مني المعلمة التنورة المكسّرة والتيشرت الأصفر ذا الشعار المطبوع.
على الرصيف قرب مقهى “الدمشقي” المقابل لـ “دامر” و”أبولو” يجلس عجوز بطاقية بيضاء مطرزة بخيوط من حرير صناعي قرب بسطته الفقيرة، عدة أكياس صغيرة من محارم “ديمة”، قليل من الكتب وأشياء أخرى صغيرة لا أذكر تفاصيلها. يلفتني بحياته التي تمر أمامي حين أمر قربه كل صباح، مرة أراه مستغرقاً في قراءة الأذكار والأدعية من كتيّب صغير، ومرة يقص أظافر يديه، مرة يقرأ في مصحف صغير، أما اليوم فكان يتناول حبات رمانة مكسورة على قطعة من جريدة، ينتقي حباتها حبة حبة علّه يعثر فيها على حبة من رمان الجنة. وكأنه يوم التنظيف العالمي لتجار الصالحية، ربما لأنه مستهل الأسبوع، يكنسون أمام محلاتهم، يشطفون، يغسلون واجهات محلاتهم بالصابون ثم يكشطونه بمسّاحات صغيرة خاصة بالزجاج. أنظر إلى انعكاسي في بللور واجهاتهم الملمّعة، كم تبدو ألواني مفرحة! برودة واخزة في صباح مشمس مبكر، أقطع الطريق نحو الدخلة المؤدية إلى “أبو شاكر”، أمر قرب مطعم “القنديل”، كرهته بعد أن باعه مالكه فتحول إلى مطعم فاخر لم يعد يتناسب مع نقودنا الضحلة كطلاب في المعهد المسرحي، وها هو الآن مهمل، هَرِم، كجميع الأمكنة التي حملت ذكرياتنا، الرواق، نادي الصحفيين، القنديل، الوحيد الذي لم يتغير هو “أبو شاكر” وهادي. في الـ 29 من أيار عجوز آخر يقف مستنداً على عكازه مقابل “الوسيم”، يمد يده للمارة دون جدوى، بعده بخطوات قليلة عجوز آخر فرد على بسطته كراكيب غير مفهومة، خرز، إبر، مناديل، عيون حسد زرقاء، بكرات خيوط. يسبقني في دوامه كل صباح. أدخل مسرح القباني، يصب لي مأمون ما تبقى من دلّة القهوة التي حضّرها علي منذ قليل، أشعل سيجارة ومع أول رشفة قهوة أنسى أن هناك حرب.
2 تشرين الثاني 2013
موقع قلم رصاص الثقافي