مناهل السهوي |
لن ننجو بسهولة، أهذا ما يريد الشّعر قوله في الغالب! ماذا عن التخلّي عن كل هوسنا وأحلامنا مقابل قصيدة موبوءة؟ لا تفعل شيئاً سوى أن تزيد غرقنا في هذياننا وتوسلنا للحياة لتمنحنا حقيقةً ثابتةً واحدة.
ربما الشاعر علي ذرب (بابل 1988) ودَّ طَرقَ أرواحنا بالواقع حتى نصل نقطة الإرهاق التي لا عودة منها، إن كنت شاعراً من مكان مشتعل كالعراق لابدّ أن تخرج بصيغة أخرى للحياة، صيغة أكثر تعقيداً وهوساً لتعيد ترديد ذات العبارة “لن ننجو بسهولة”.
تمتلك مجموعة (سأتذكر أني كلب وأعضك أيها العالم) لـ علي ذرب، (دار مخطوطات -2016) بيئة شعريّة شبيهة ببيئة الشاعر المكانية، قلق، عزلة وموت غير متوقع في أيّ لحظة، لتظهر نصوص ببنية قلقة، غير ثابتة تتوجه غالباً نحو قلب مفاهيمك عن الوجود والرغبات والأحداث، كأنّه يودّ إثقال النصوص بقلقه غير الثابت والمتوازن، لا شعرياً ولا واقعياً، يشوّه ما قد تتخيل نهايته على ما يرام، الاتجاهات، الصفات، الكتل، والعناصر والإنسان، بنقل ذكي لتوتره الوجودي:
“أذهب لغسل كفوفنا بالماء الفاتر
يمتلئ الحوض
شيء ما يرفض النزول
تتدلى خيوط الماء
ومثل كلّ مرة
أحاول بعشرة كفوف وأفشل
في إنقاذ المغسلة
من حالة الاختناق”
ثمة تشويه متعمد للبيئة الداخلية والخارجية، صادماً في بعض الأماكن، تتساءل أيحق فعلاً له فعل ذلك؟!، أيحق لشاعرٍ التلاعب لهذا الحد بثوابت إنسانية ومكانية وشعورية؟ ربما، إذ يدفعه محيطه الراهن لقلب كل “ما هو طبيعي”.
إنه يحاول في النهاية نقل كلّ ما يدور حوله بطريقة أو بأخرى، لأننا لا نتلقى الحدث وحسب، بل الإحساس والألم الذي رافقه، كأن سلسلة من الوقائع تتكرر بشكل صادم.
يقترب علي ذرب من عوالم سوريالية أكثر من مجموعته السابقة (فراغ ناصع البياض)، أو من وجهة نظر البعض هي إغراق في الرمزية وإطلاق العنان للتداعيات النفسية غير المنظمة والمنطقية، نصوص تتخلى عن تقديم الإنسان بشكل مباشر، لتستبدل ذلك بأدوات المكان المتوقعة وغير المتوقعة، بأجزاء الجسد والمجردات، وربما هذا نتيجة عدم قدرة الفرد إيجاد صيغة مفهومة لوجوده في الحرب العراقية، من هو الفرد في تلك الحرب عدا خوف معقد! أقدام ورؤوس تتطاير بعد تفجير وأحزان أمهات لن يقدرن على فعل شيء. بعض النصوص تحتاج قراءتها مرات عدة، في حين أنه يقلل من “سورياليته” بعد النصف الأول من المجموعة لتغدو أكثر بساطة:
“أدفن جفني في ظل ملعقة قديمة
اسكب ظلي في كأس وأشربه
واردم عريي بأغلاط مدفئة
مادام في البكاء مسافة
تنمو الأصابع فيها
لتنقرها العيون”
أحد أعضاء (ميليشا الثقافة) والتي تعايش الشّعر في أكثر الأماكن ضيقاً وموتاً، يستخدم صوراً مركبة، “مسننة” وذات بعد نفسي قاسي، أغلب الصور قادرة على “جرحك” عميقاً، في أماكن ذهنية ونفسية قصية لا يمكن الوصول إليها إلّا عبر معايشة أحداث غير اعتيادية وتجربة مشاعر غير قابلة للذوبان في الذاكرة الإنسانية، وكأنه يرمي الأسيد على ذواتنا ثم يذهب للتكور في زاوية الحزن، من ناحية ثانية قد يكون البعض بحاجة إلى نصوص أبسط وصور أكثر وضوحاً فقارئ الشاعر علي ربما يجب أن يكون ذو مخزون شعري قادر على تخطي حدود الواقع الطبيعي نحو هشاشة الوجود وعدم ثباته، خصوصاً مع وجود مفردات صعبة قد تذهب لتكون غير يسيرة على الفهم، ربما ليس الجميع سيكونون قادرين على قراءة هذه المجموعة بسهولة:
“أرجوك
بعد أن تقطع رأسي
لا تحمله بين يديك
وتلتقط صورة تذكارية معه”
حساسية علي ذرب “مخيفة” تجاه التفاصيل، إذ يلتقط الألم من جذره ويضغط عليه بشدة، وقد يصل إلى حد جلد نفسه على الملأ، لا يتوانى عن جرح اللغة بمخالب الذاكرة والرجولة المتفتتة بأشكال الموت حوله. هناك نصوص كثيرة تشعر كما لو أنه يغرس رأسه في الموت حد الاختناق ثم يرفعه وهو يشهق بصعوبة، إنها قصائد جَلد الذات، ومعاقبة البشرية بشخصه
“الأطفال المرسومون على حائط المدرسة في حيّنا
أصافحهم كل يوم
لأنهم الوحيدون الذين لم تتلطخ أيديهم بالدماء”
هكذا فالخروج من مجموعة علي ذرب هو خروج مثقل بإنسانية قاسية، أشبه بخروج رجل يحترق من وسط انفجار هائل، فحتماً أنت لست مجرد قارئ سيمضي خارج المجموعة وحسب بل ستشارك بحدث قاسي، ستشاهد الموت قريباً، وستتلمس الجدران المحترقة غير مدرك لماذا أنت هنا!
شاعرة سورية | خاص موقع قلم رصاص