رامي كوسا |
حين نأتي على ذكر المسلسلات الإذاعية، يتداعى الى أذهان السوريين “حكم العدالة” الّذي استطاع أن يمدّ جسورَ تواصلٍ مديدة بينه وبينَ جيلين من المستمعين. علاقةُ العمل مع جمهوره حوّلته إلى مرجعيّة يُقاسُ عليها كلّ مشروعٍ مماثل لجهةِ جدواه وحرفيّته وقدرته على الاقترابِ من الشّارع. قبل أربعةِ عقودٍ تقريباً، بثّت “إذاعة دمشق” الحلقةَ الأولى من المسلسل الذي تحوّل إلى واحدٍ من كلاسيكيات الدراما السورية. باتت الساعة الواحدةُ والنصف من ظُهر كلّ ثلاثاء محجوزةً للسلسلة الإذاعية التي يواظب على كتابة نصوصها، اليوم، ابنا المحامي والكاتبِ الراحل هائل مُنيب اليوسفي.
مساء الثاني من أيلول الحالي، أطلقت “بي بي سي ميديا أكشن” بالشراكة مع “أفلام بطوطة” وبدعمٍ ماليّ من الاتحاد الأوروبي، مسلسلاً إذاعياً بعنوان “حيّ المطار” تدورُ أحداثه في ضاحيةٍ وهمية في سوريا، متناولاً اليوميّات الساخنة لسوريّي الداخل بما فيها من مشكلاتٍ وهموم. العملُ الّذي بثّت منه، حتّى اليوم، سبعُ حلقات، تناوبَ على كتابتها كلّ من بلال شحادات ولبنى مشلح ورازي وردة، وحرّرها هوزان عكّو وعلاء رشيدي وباسم بريش، تغوصُ سداسيّته الأولى في مشكلاتٍ فنيّة كثيرة.
ما يميّز النصّ الإذاعيّ أنّه يكتب مسامعَ مجرّدة من كلّ عناصر الفرجة، ويرتكز على أقاصيصَ تُظهّرها الحوارات فقط. لذلك يجب أن تكونَ المادّة كثيفة وتحمل فكرة واضحة تُشكّل جزءاً من البنية القصصيّة للمسلسل. هذه المواصفات غابت عن الحلقاتِ الستِّ الأولى، من إخراج خالد أبو بكر.
حملت نصوص المسلسل تطويلاتٍ غير مبرّرة أسقطتِ العملَ في مطبّ الملل. في بعضِ الحلقات، نستطيع أن نحذف مسمعاً أو مسمعين دونَ أن يؤدّي ذلك إلى خللٍ في البنية أو تماسك الحكاية. الحشو ربمّا يكون مغفوراً حين نتحدّث عن ساعةٍ دراميّة، لكنّ تسلّل الرتابة إلى حلقاتِ “حيّ المطار” المكوّنة أساساً من 15 دقيقة فقط، يُشكّل مطبًا لا بدّ أنّ يتمّ الاشتغالُ على تصويبه في الحلقات المقبلة.
انتدبت “بي بي سي ميديا أكشن” خبيرين بريطانيين للإشراف على إنجازِ نصّ المسلسل ومتابعة عمليات الإخراج، ففرضا قوالبَ ومرجعيات ربمّا تسبّبت بتقييد شحادات ومشلح لجهةِ إلزامهما بآليات بناءٍ لا تتناسب مع مزاجِ الشارع السوريّ الّذي ما عاد ينجذبُ إلى حكايةٍ تُبنى على فاتحاتٍ بطيئةٍ تفتقر للتشويق.
ذكَرَ مصدرٌ مُقربٌ من صنّاع العمل، أنّ عملية اختيارِ الممثلين عانت من إصرار الجهة المُنتجة على إعطاءِ الأولوية للممثلين المقيمين في لبنان بغيةَ منح هؤلاء فرصَ عملٍ تعيلهم على مواجهةِ ضغوطِ الحياة في بيروت، الأمرُ الّذي تسبّب بتضييق مروحة الخيارات، فأُسندت بعضُ الأدوار الرئيسة لممثلين أقلّ ما يُقال في أدائهم إنّه بدائيّ.
يستطيع المستمع أن يتحسّس الفروقات الواضحة بين أداءِ شادي مقرش، الّذي يلعب واحداً من أدوار البطولة بتمكّنٍ ودونَ الانزلاقِ نحو انفعالاتٍ مبالغٍ فيها، وبين أداءِ بعضِ الممثلين الّذين “يُلحّنون” جملهم ويؤدّونها بانفعالٍ زائفٍ خالٍ من ألفباءِ المهارة في استعمالِ الصوت وتطويعه كواحدةٍ من أهمّ أدواتِ الممثل.
أسندت مهمّة كتابة السداسية الثانية من “حيّ المطار”، إلى كلّ من آنّا عكّاش ورازي وردة، على أن يُخرجها وائل ديب. بُثّت منها حلقةٌ واحدة ليست كافيةً لمحاكمةِ التفاصيل الفنيّة أسوةً بالسداسية الأولى.
يُحسب للعمل، فكرياً، أنّه لم ينجذب نحو اصطفافٍ سياسيّ دونَ سواه، وأنّه لم ينحدر نحو لغةٍ إرشاديةٍ تميلُ نحو الوعظ والخطابة. لكنّ الأكيد أنّ “حيّ المطار” الّذي رُصدت لتنفيذه ميزانية أقلّ ما يُقال فيها إنّها جيّدة، يحتاجُ إلى إعادة النظرُ في بنائه وشكله الفنيّ في حالِ كان القيمون عليه حريصين على بناءِ علاقةٍ مع الجمهور تُحاكي تلك الّتي بناها “حُكم العدالة”، المُنفّذ بإمكانياتٍ خجولة، مع مستمعي “إذاعة دمشق”.
السفير