أنظر إلى تفاصيل المرآة التي تتداخل فيها مربعات القيشاني بخشب الجوز المحفور والمطعّم ببعض الصَدف، على القيشانات الثلاث العلوية كُتِب على التوالي: بسم الله، العزة لله، الحمد لله.. أما تلك التي في جوانب الإطار وأسفله فزُخرفت بورود حمراء وزرقاء بلون البحر تحني رؤوسها لنسمات ريح غير مرئية سوى لخيال رسامها.
ألمح انعكاسي فيها بالصدفة وأستدير نحو صاحب المحل أسأله عن سعر هذا الجمال:
– أدّيش؟
– أربعين ألف..
– غالي..
– أختي.. هيّ خشب جوز.. كنا نجيبه من الغوطة.. بس هلأ ما عاد ضل غوطة..
ويصب الشاي لزائره الهادئ في كأس صغير بخصر نحيل، أسأله:
– طيب شو عم تعملوا إذا ما في خشب جوز؟
وهو يصب الشاي لي أيضاً ويمد باكيت سجائره:
– كل هي القطع يللي شايفتيها بالمحل قديمة شغل ورشتنا، بس هلأ بعد المشاكل وقفنا وما عاد اشتغلنا شي.. مو بس نحنا، في كتير ورشات تانية سكرت..
أشرب الشاي بهدوء أنا والزائر الهادئ، هولندي كان يعمل في الأمم المتحدة، تحديداً في الجولان، حتى أنه جرب الاختطاف ليوم واحد، أما سيارة الـ u.n خاصته فقد احتفظ بها الشباب الخاطفون، لكن رفيقه كان أقل حظاً، فقد ظل مخطوفاً لثمانية أشهر تمكن من الهرب بعدها.
يُريه صاحب الدكان صورة على الموبايل أرسلتها صديقة مشتركة بينهما وهي تجلس في مرج أخضر قرب بقرة، فيتحدث الهولندي بطبعه التهكمي عن أبقار الجولان كيف أنها ذكّرته على الدوام بأبقار هولندا، فلم يشعر بالغربة وهو يعمل هناك لأحد عشر عاماً كاملاً.
لقد تقاعد الآن، وهو متزوج من سورية منذ سنوات ويقيم في القصاع. سألته ما الذي يدفعه للبقاء هنا رغم كل هذا الاضطراب فيجيب ببساطة:
– الطقس والناس..
وبمناسبة الحديث يقول صاحب المحل بإنكليزيته المكسّرة أن نيويورك تغمرها الثلوج، فيجيبه الهولندي بأن سبب طقس أميركا المثلج هو ديمقراطيتها، فابتسِم للدعابة اللاذعة.
أسأله لم عربيته سيئة هكذا طالما زوجته سورية، فيجيب بأن الوقت لم يكن في صالحه فهو طوال يومه في العمل ولا يملك سوى بضع ساعات في الليل ليقضيها مع زوجته السورية، وفي الليل لا حاجة للكلام.
أضحك بخبث.
*****
خبت أضواء النجوم الخمس عن فنادق السياح وأيام السياحة والاصطياف على امتداد الشارع المستقيم، فقد تحولت إلى أماكن لإقامة السوريين ممن اضطر مكرهاً ليترك بيته، لا غرف فارغة لأنها تؤجر إيجاراً شهرياً. غسيل منشور في أرض فندق “نينار” وهو بيت عربي، ومجموعة من الأطفال ترن ضحكاتهم بين الجدران يركضون حول البركة.
سألت العامل في الفندق عنهم فأجاب أنهم من المخيم.
شبان في بذلات عسكرية يحملون روسياتهم في الطرقات وكأنها حقائب أو أكياس خضار، أمر أقل من عادي ومألوف. جيش دفاع وطني، لجان شعبية، قوات خاصة، مكافحة الإرهاب وتصنيفات مختلفة أخرى، لا يتميزون عن بعضهم سوى بالشعارات أو الربطات المثبتة إلى أكمام بذلاتهم المموهة.
حملني جندي صغير يضع على ظهره حقيبة مدرسية طُبع عليها رسم لسبايدرمان إلى صورة في الذاكرة لوجه مخدة مزينة برسومات ملونة لسبونج بووب أتكأ عليها رأس جندي آخر فقد ساقيه، تحاوره مذيعة بلهاء في برنامج “قامات السنديان”، شارباه ما يزالان زغب، طفل من جيل استمتع بمشاهدة هذا الكرتون التافه فقد ساقيه ولن يتمكن من الركض الآن ليركل الكرة مع الأطفال الآخرين. مفارقة مؤلمة تافهة كتفاهة حياتنا.
أتذكر الهولندي من الأمم المتحدة، فيخطر ببالي ما سمعته عن كتيبة من الجنود في القنيطرة، يتراجعون مسافة متر من الأرض كل بضعة أشهر، يتقلص عددهم من خمسة آلاف إلى سبعمئة خلال ثلاث سنوات. تمر يارا سريعة أيضاً تتحدث عن مرضاها في المشفى، رجل تظهر في صورة رئتيه الشعاعية مجموعة من البراغي لكنه ما يزال يسير ويضحك، ويرنّ أيضاً كلما قطع جهاز كشف المعادن، معجزة بالفعل.
هكذا نحن السوريون.. معجزة متكاملة..
أشم رائحة زنبق بلدي ذكرتني بمثار التي لجأت إلى عالم أنقى..
رائحتها.. رائحة مثار..
*****
بين (حزوز) الحجارة السوداء على الطريق دحلة شفافة بثلاثة خطوط ملونة داخلها. أرفعها عن الأرض وأفركها بين أصابعي لأزيل عنها الغبار، أنظر عبرها إلى الشمس كما كنت أفعل في طفولتي، فأرى داخلها عالماً خيالياً كاملاً آخر مختلف عن عالمنا المغبرّ.
ليتني استطيع التقلص إلى حجم ميكروسكوبي أو نانوسكوبي للهروب إليه.
3 آذار 2014
موقع قلم رصاص الثقافي