فراس موسى |
من هؤلاء؟ من أعطاهم الحق ليجرّوا الشعر العربي القديم جرّ النعاج ويدخلوه إلى قاعة محكمة، ويجبروه أن يجلس على كرسي الاتهام كتلميذ مدرسة أمام شلّة قضاة ألبسوا أنفسهم أردية التحكيم، وتوّجوا رؤوسهم بتيجان المعرفة، ومن سمح لهم بشنق القصيدة التقليدية من رجليها في عز النهار أمام شهود زور لم يغامروا في حياتهم أبعد من صفحات الكتب المترجمة التي تصفّحوها!
إنني طبعاً لا أعبد الشعر القديم والأشكال التقليدية للقصيدة العربية عبادة مطلقة، ولا أقدّم لها فروض طاعة يومية، ولا أغسل أصابع رجليها بماء الورد كما اعتادت شعوب العالم العربي أن تفعل مع حكّامها منذ أن خلق الله الكون، ولكنّ اقتحام منزل أبي الطيب المتنبي واعتقاله، واقتلاع حنجرة ابن الرومي وجرير، وحرق دفاتر شوقي والجواهري بذريعة أنّ غناء هؤلاء صار مؤذيا للأسماع ليست سوى أفعال شيطنة لا تقوم بها غير عناصر المخابرات والمليشيات.
إنّ الرجم اليومي الذي يقوم به بعض دعاة الحداثة الشعرية لكل ما قالته العرب منذ امرئ القيس حتى يومنا هذا، والطريقة السادية التي يتم بها سحل القصيدة العربية الغنائية في الشوارع بحجّة أنّ الغنائية في الشعر أصبحت (موضة) قديمة، وانتهى زمانها، وأنها لعنة لا بدّ للشعر العربي أن يفتكّ نفسه من قبضتها، وبحجّة أنّ خشخشة قوافيها أصبحت غير متوافقةٍ مع الذوق العام السائد يدفعنا إلى قرع نواقيس الخطر، لأنّ هذه الأفعال لا محرّض لها سوى الحقد والحسد الذي يغلي في بعض النفوس.
إنني لا أقف ضدّ أي حركة تجديد، أو أي محاولة تستهدف تطوير وتحضير القصيدة العربية، وكسوتها بأثواب الحداثة، ورشّ وجهها بمياه العصر بعدما طالت غيبوبتها، لكنّ الثورة الشعرية مثل أي ثورةٍ أخرى لا بدّ لها من ضوابط وقوانين تخضع لها، ولا بدّ لها قبل كل شيء من أعمدة أساسية ومقومات تتّكئ عليها لتنهض، ولست أفهم أبدا اعتبار البعض أن الغنائية الشعرية سيارة معطّلة تقف في منتصف الطريق، ولست أفهم أيضاً لماذا يتم ربط الحداثة الشعرية بقصيدة النثر، ولماذا يتم التأكيد دوما على التوءمة بين التجديد الشعري والخروج على القافية والأوزان. إنّ عملية الحرق والتكسير يجب أن تسير بشكل موازٍ مع عملية الخلق والإنتاج، ولكنّ الفوضى التي تسود الكتابة الشعرية ذابحة، فالحركة الحداثوية الشعرية اليوم ليس فيها ما يسرّ الخاطر، وإذا أردت تجربةً على ذلك فافتح أيّ مجلة ثقافية، أو أي ديوان شعر، وطالع هذا الفيضان من القصائد التي لا تملك من مقومات القصيدة وعناصرها سوى الاسم. إنّ الدوخة ستأكل أعصابك وأنت تحاول فك الشيفرة السحرية التي ختم بها الشاعر على قصيدته، وسوف تتوه وأنت تواجه ألغازا وطلاسما شعرية وكلمات متقاطعة لا تشبه سوى حجب ورقى كتبها مشعوذ لا يعرف الكتابة، وحين تبلغ حيرتك أقصى مداها، يهتف بك صوت يفهمك بأنك لن تستطيع مهما كنت بارعاً أن تفهم ما ورائيّة هذه (القصيدة) وكيميائيتها.
إن أغلبنا يتذكّر ما قام به أحد الشعراء السوريين (حكم البابا) الذي جمع عناوين وكلمات من مجلات وصحف متفرقة، ثم ألصقها جنباً إلى جنب صانعاً منها (قصيدة) تشبه (القصائد) التي يكتبها غالبية الشعراء (المتمردين على الوزن والقافية)، ثمّ قدّم النص الذي تكوّن إلى نقاد وشعراء طالباً آراءهم بقصيدته الجرائدية، فتورّط جلّهم، وأشاد بهذه القصيدة (الخدعة). إنّ استذكار هذه الحادثة ليس إلّا للتوكيد على أن اللا انضباط والفوضى والرخاوة تسود الكتابة الشعرية اليوم. إنّني أعشق نكهة التمرد على أي نظام شعري، وأقف في الصفوف الأولى للمحتجّين الطامحين إلى إذابة الجليد الذي يكبّل أجنحة القصيدة العربية، ويمنعها من الزفيف، ولكنّ هدم عمارة عمرها من عمر الزمن، والسُكنى في تجارب لم تتجاوز بعد سنوات طفولتها الأولى شيء لا يفعله إلّا أرباع المثقفين، والمختلّون عقليا!
شاعر فلسطيني سوري | خاص مجلة قلم رصاص