محمود السرساوي |
لا بد من كأس شاي واحد كي تقف الأرض على قدميها من جديد، والشاي لمن لا يعرفه فاكهة الصباح، واختباره الأول، بهبوب ملائكته على أطراف النهار، في بزوغه المبكر قبل الصحو، كما الحب الأول بكل حرارته وجنونه…
وقبل وصولي إلى الشباك لتناول إبريق الشاي، عوت القذيفة وهي تصفر في السماء وكأنها مصوبة لرأسي تماما، واهتزت الشبابيك والأبواب، لكن في هذه اللحظة لابد من الشاي.
كأس شاي واحد يحدد نبض المكان، ويدلك على خصال ساكنيه… بعضهم يشربه معتقاً كما النبيذ كتعويض لا شعوري ربما عن النقصان، وبعضهم يفرط في بهتان لونه كأنما لا ملامح له، وبعضهم لا هذا ولا ذاك، يجيد الكتمان والبوح معاً، وهؤلاء الذين يعتقون ويبهتون لون الشاي غالباً ما يستهلكون أحلامهم ببساطة، ويطيعون حماسهم من اللحظة الأولى، حتى و إن مكروا يذهبون إلى مقتلهم بعجالة انكشافهم، ووقوعهم في حبائل شباكهم، أما البعض الثاني فغالباً ما تسرقه السياسة من روحه إذ تتمرد على توازن صمته وصوته معاً، وتستغرقه أو يستغرقها، وفي الحالتين للشاي عاداته التي تغوينا وتكشف عن مهاراته في نصب الشراك لمحبيه فمن لا يتقن سكره تخونه الحلاوة المفرطة في ابتهاجها لكأنها راقصة ثملة تخرج عن الايقاع، ومن يقلل من الشاي فيكتفي بحفنة صغيرة لإبريق ممتلئ ليس بخيلاً كما يشاع إنما لا يعرف الحب العميق وربما يكتفي بتلويحة اليد لأن روحه لم تستدر بعد ولم تعش الشغف.
والشاي يحتاج أن تتقن حواره، فهمت هذا وأنا أحاول الصعود إلى السطح حيلة كي لا يصطادني القناص، فهو لا يعرف سوى لغة واحدة هي القتل… إصابة في الرأس أو في القلب كافية لأن يتخبط الهدف بدمه باحثاً عن لحظة خضراء عاشها قبل شهقته الأخيرة…
فلحظة القناص كما لحظة الطاغية لا تحفل إلا بذاتها ولاتعمل إلا من أجل اشباع نهمها بالحضور، وفي الحالتين يتم هدر الدم لتوكيد لذة المنتصر.
وكلما كابد القناص كما الطاغية أيضاً لوصول طريدته كلما كانت نشوة تلك اللذة أشد ضراوة وأكثر امتلاء…
لحظة القناص هي لحظة كمون وتوقف كامل عن الحركة، يكتم القاتل أنفاسه كأنما يتهيأ لمكان أكثر سطوة… مكان يستطيع المباغتة فيه دائما… مكان يستطيع احتوائه بحجره وبشره وحيواناته، ولهذا يتسلى القناص في اصطياد القطط والكلاب حين لا يجد بشرياً يملأ حس الغطرسة فيه، أنه يربي الموت كما يربي الفقراء الأمل.
فالبشر مجرد هدف أو رقم فائض عن الحاجة وغالباً ما تتعدد الأهداف والأرقام بتعدد الغايات المتوخاة من قتلها ثم تغدو اللعبة مع التكرار ممارسة للقتل من أجل القتل. وقد لايكون مخيم اليرموك ساحة مثالية أو ملعباً واسعاً لتلك اللعبة لكنه بالتأكيد من الساحات التي لايهتز لفقدان الضحايا فيها سوى أرواح من ماتوا ومن يحبونهم طبعاً. وقد يكون الموت قنصاً أخف وطأة من الموت جوعاً بعد ألم طويل.
فالموت جوعاً ليس مجرد تتويج ليأس عميق ومر بل هو الإفراغ الكامل لإنسانية الجسد البشري، سحق معنى الحياة في أوصاله ليكون عبرة ذعر دائم ممن يفكر في مشروع آخر لا يتفق مع هدف القناص أو مالكه الطاغي، لكن لابد من كأس شاي لتستعيد أنفاسك فربما تكون هي المرة الأخيرة التي تستطيع فيها أن تصنف لحظات الموت المؤجل..
شاعر وصحفي فلسطيني سوري ـ قبرص | خاص موقع قلم رصاص