لم تكن الحقيقة البشرية هي الشغل الشاغل، للمنتوجات الثقافية “العربية” على أنواعها المحدودة وتأثيراتها المزرية، فالحقيقة حصلت وانتهى النقاش، وما الرقص حولها إلا تجديد لمظهرها وتدبير لدحشها في وسائل التوصيل المعاصرة.
في واقع الحال، إن المنظر واضح وجلي أمام الجميع، منظر تشيب له الولدان، كارثة تمدنيّة بكل ما يعنيه الخراب من كلمة، واضح صريح وفج، وأمام أعين العالم المتخاذل حسب تعبير السادة الأفاضل من منتجي الثقافة، وكأن العالم هو المسؤول عن السلوك الفضائحي الذي نمارسه، مع التحّفظ على مسؤولياتنا تجاهه، ليتضح وبجلاء تام غير منقوص أن الأنموذج المرغوب والمشتهى من قبلنا، هو أنموذج هذا العالم المسمى غربياً، والذي نرفضه ونكيل له الشتائم والاتهامات ونحن نستظل تحت عريشته الوارفة، ندعوه لإنقاذنا على الرغم من ملايين الاحتجاجات عليه، ومن كافة الأنواع والأجناس الثقافية ومطالبات الانسحاب، لدرجة أنه تحول إلى ملطشة وممسحة لإتساخ أيدينا بدمائنا، وما أن نمي أن “أوباما” يريد الانسحاب حتى علت الأصوات تطالبه بعدم تركنا لأنفسنا. فنحن ما نحن عليه من صورة للبلاء بعد محاولة ممارسة ثقافاتنا الرشيدة! وتطلعاتنا الراقية! ما يعطي صورة عن “ثقافة” تقف وراء هذا السلوك الراقي.
نعم ثقافتنا نحن بمنتجاتها الثرة هي من يحرك سلوكنا على هذا النحو الكارثي، بما يشي بتناولنا منتجات ثقافية مسمومة من شغل أيدينا أوصلتنا الى هذا الدرك، ومع التحفظ على جلد الذات، فإن مواجهة الحقيقة تبدو لنا كخيار هي أصعب من كل هذا الدمار، وما نزال نتلقى كل هذه المنتجات الثقافية السامة بإستقطاب أهبل عز مثاله، فهل نحن موبوؤون؟… إذا التشخيص بناء على الوقائع يؤكد ذلك، فلماذا كل هذا التحايل على المرض؟ ومحاولة استبداله بمرض شاف، أو محاولة إتهام مصدر العدوى الذي أنتظرناه من الغرب فإذا به يأتينا من الجنوب أو الشمال.
الوهم هو السمية المركزة في الثقافة التي نمارسها، والوهم هو ما تأخذ به العامة والجماهير، ولكنه هو نفسه يكون تدليساً وتلفيقاً من منتجي الثقافة من الخاصة و”النخب” التي تدلنا الى الطريق الطويلة تجاه الهاوية، طريق طويلة صعبة ومعفرة لكنها تؤجل إنفجار دمائنا على قارعة الحقيقة، وكما لكل طريق نهاية، ينتظر منتجوا الثقافة جماهيرهم في قاع الهاوية ليؤنبوهم وليلفقون لهم قضايا ومسائل جديدة تضعهم على مسار هاوية جديدة.
الأنموذج المشتهى ومن دون مواربة هو الأنموذج الأوروبي والأمريكي (ولا أقول الأنواري أو الياباني أو الكور إلخ) منذ الأفغاني ومحمد عبده ومن لف لفيفهم وتفرع عنهم أو تناسل منهم، والسؤال الجوهري في مجمل طروحاتهم، هو كيف نحافظ على ما نحن عليه ونحصل على العيش في هذا الأنموذج الناجح؟ يبدو السؤال فنتازيا لعوبا، ولكننا وبما أننا شاطرون في صناعة الأيقونات، بدأنا بالتطييب والآهات لهذا النوع من الأجوبة، وأصبح المساس بأي مظهر من مظاهر فلكلورنا الثقافي يلاقي تهمة التغريب العصية عن الفهم، وانساق منتجو الثقافة في هذا القطيع إلى يومنا هذا مبتدعين ثنائية استقطابية تضع العربة قبل الحصان، وتجلد أو تنفي بل وتعدم كل من خرج عن طريقها (حتى لو لقضاء الحاجة) متهمة إياه بعدم الولاء للحاجات والخصوصيات المحلية، والولاء الفاضح للغرب ولجائزة نوبل!
والولاء للغرب هو قصة كبرى (مع المحافظة على اشتهاء الأنموذج)، تعتمد على الفصل الشديد بين الثقافة الغربية والثقافة الغربية نفسها، وهذه ليست مزحة أو شطحة فانتازية، بل هي فتوى تقدمية علمانية الشبهة، التي تقول أن نأخذ من الغرب ما نريد ونترك ما يضر!!!! هذه الفتوى التزم بها الكثيرون واعتبروها المختبر الحقيقي لتجريب التنظيرات العقلانية التي تعتمد على الواقع، الذي ظهر فيما بعد أنه واقع مشتهى إذا لم نقل مفبرك لتوفير بنية تنظيرية قائمة على المماحكة والمجاكرة أكثر منها بنية قائمة على الجدل، فمحرمات الولوج إلى الأنموذج الغربي واضحة تماما، وهي لا تتماشى مع أية شريحة من شرائح منتجي الثقافة بغض النظر عن مكانتهم الأيقونية في الأوساط المسماة وهما مجتمعات.
ليس ما أكتبه الآن هو دعوة للالتزام بالإنموذج الغربي بقضه وقضيضه، مع أني أتمناه ولا أراه مستحيلاً، ولكنه هو نفسه يأبى تطبيقه في واقع ثقافي غير قابل للجدل، فرفضه من قبل منتجي الثقافة لدينا هو من قبيل لزوم ما لا يلزم، ولا يحتاج إلى تلك المطولات التنظيرية لإثبات عدم صلاحيته ناهيك عن تكرار هذه الأسطوانة المشروخة في كل مناسبة ثقافية تنظيرية كانت أم تطبيقية. فإذا أردتم الإطلاع وعلى سبيل الإطلاع لا الفهم والتعبير، فانظروا إلى المرتسمات الهمجية لثقافتنا على أرض الواقع، هذه هي ثقافتنا التي تأبون وتخشون من تأثير غربي عليها، ثقافة الدم والقتل والهويات البائدة، هذه المرتسمات وهي فعلية حقيقية، تقدم ثقافتنا بأبهى صورها، صور من البهيمية الرعناء التي لا تعترف بأية قيمة للصالح البشري.
دماء دماء وخراب خراب، ولا زلنا نأمل بردع الغزو الثقافي الغربي، ونرجم المخالف/ الدريئة بكل أنواع المفخخات، مؤسسين لجحيم مختلف عن كل ما عرفته البشرية بحجة الخصوصية والتمايز، هوية موعودة تثأر من هوية موعودة ،وهوية مشتهاة تبحث عن ردع لحقيقيتها بالإثم والتثريب.
يا لنا من عاهة هذا الزمان الذي لم نعرف أن نفك خطه ونريد أن ننظر بماكس فيبر وفوكو وعبد الفتاح غرامشي؟ ونرد عليهم ونظهر خطلهم وأخطائهم، انضبوا واستحوا قليلاً، وكفوا عن التبذير، فما أنتم إلا رجع صدى لصدى الكثبان الرملية،لا يسمعه إلا طرشان الحضارة والتمدن .
وباللهجة السورية، حاجة علاك شفناكم فوق وشفناكن تحت، والإناء ينضح بما فيه، سقفكم العالي هو أن تستقووا على أدونيس الدريئة التي لا تمتلك مخالباً. ولك تفوووووووووو.
مجلة قلم رصاص الثقافية