“عند الجوع لا يوجد خبز سيئ”
ذكرت منظمة الأغذية العالمية (فاو) أن حوالي 21 ألف شخص يموتون يومياً بسبب الجوع، أي ما يعادل موت شخص واحد كل أربع ثوانٍ معظمهم من الأطفال، وأن 11 % من سكان العالم يعانون من نقص الغذاء، ويحتاجون إلى المساعدة، وهذه النسبة المخيفة ليست بسبب عدم وجود غذاء كافٍ للبشر على سطح هذه الكرة الأرضية، إنها فقط بسبب كيفية تصرف الإنسان بهذا الغذاء، وازدياد الفقر وتفاوت توزيع الموارد والصراعات والحروب المستمرة، الحروب التي عصفت بالوطن العربي بقسوة، تحديداً في فلسطين والعراق والسودان ومؤخراً في ليبيا واليمن وسورية، تقول الأم تيريزا: “هناك الكثير من الجوع في العالم، ليس للخبز بل للحب”!
ويمكن القول: إن هذه التقارير كانت بعيدةً عن نطاق اهتمامنا قبل أن تدخل سورية إلى هذه الدائرة، ويبدأ الناس بالموت فيها جوعاً بسبب الحصار الخانق لبعض المناطق السكنية، والذي ولّد بدوره نقصاً حاداً في المواد الغذائية، وكنا نعتقد أننا نعيش في القرن الواحد والعشرين إلى أن أوقفت الحرب التي اجتاحت البلاد الزمن، فعدنا بأشهر قليلة آلاف السنوات إلى الوراء، ولابد أن كل من تعلّم في سورية درس خلال مراحل تعليمه أنماط الحياة المختلفة، وأنها قد تكون مدنية أو ريفية أو بدوية، ولابد أنه قرأ في فقرة الحياة البدوية: “أن البدوي كان يرحل ويتنقّل بحثاً عن الكلأ والماء والغذاء”، والآن يقيم آلاف البشر في مكان يفتقد مقومات الحياة في المدينة وفي الريف، لكنهم ليسوا أحراراً كالبدو أيضاً ليبحثوا عن غذائهم ومائهم، بل محاصرين ولا يستطيعون النجاة بأنفسهم، يا ترى ما هو التصنيف المناسب لهكذا نمط من الحياة؟!
عانت حلب -العاصمة الاقتصادية لسورية- بقسميها الشرقي والغربي من حصارات غذائية، وهذا يعني عدم توافر معظم المواد الأساسية، وارتفاع سعر أنبوبة الغاز خمسة أضعاف مباشرةً، وهي الوسيلة الوحيدة ليطبخ الناس طعامهم في ظل انعدام الكهرباء، وكان الناس يعيشون على ما تبقى من المواد التموينية الموجودة داخل المدينة، والتي يتضاعف سعرها أيضاً، أما الخبز فقد شكّل المعاناة الكبرى للسكان، حيث كانت المدينة تعاني من نقص حاد في مادة الطحين، ولأن “الجوع ليس له من صديق إلا من يطعمه” -حسب ما رأى أريستوفان- كان على معظم الناس الانتظار في طوابير الأفران العمومية من الساعة الرابعة صباحاً وحتى الساعة الواحدة ظهراً ليحصلوا على خمسة عشر رغيفاً فقط، وعليه سيكون هذا التعذيب يومياً، وهو الأمر الذي لم يخطر على بال سكان حلب في يوم من الأيام، خاصة أنهم كانوا يتباهون بالمطبخ الحلبي أحد أشهر مطابخ الطعام الشرقي، إلى أن أصبحوا -من أجل الخبز فقط- أشبه بالمتسولين، يقول جيفري آرتشر: ” إن الشخص لا يستطيع أن يعيش بالخبز وحده”، أعتقد أنه كان المطلب الوحيد للعيش في تلك الأوقات!
كانت عائلتي تتناوب على هذه المهمة الشاقة في أيام الحصار، وكان يجب على أحدهم الوقوف يومياً أكثر من ثماني ساعات من أجل الخبز، وبما أنني مجبرة على الحضور اليومي لمحاضرات تمهيدي الماجستير وإعطاء الدروس الخصوصية بعد الظهر، فكنت معفيةً من هذا الشقاء، ولم أشارك أهلي طقسهم اليومي في الانتظار، ومشاهدة المشاجرات الدورية بين الناس على الأماكن في الطابور الطويل، وإطلاق المسلحين الرصاص والشتائم في محاولة “عسكرية” لتنظيم الدور، هم ذاتهم الذين كانوا يأخذون أدوار الكثير من المدنيين، ومن ثم يبيعون الخبز بعشرة أضعاف سعره لمن لا يريد الانتظار، الأمر الذي لا تستطيعه العائلات الفقيرة بالطبع، ولا حتى العائلات متوسطة الحال، يقول مثل سويسري بليغ: “ينبغي دوماً رمي قطعة خبز في فم الكلب الشرير”، يبدو أن هذا ما كان يحدث بالفعل!
في يوم من أيام الحصار القاسية، وبينما كنت في طريق العودة للمنزل، رأيت سيارة “بيك آب” مليئةً بأرغفة الخبز، وكان أحد المسلحين واقفاً بجوارها وهو يدخن، كانت رؤية الخبز مكدساً بهذه الوفرة أمراً غير عادي، وهو ما دفعني لأذهب إليه وأطلب منه بأدب أن يبيعني القليل منه، أخبرني أن هذا الخبز مخصص للعساكر وأنه ليس للبيع، كنت سأهمّ بالمغادرة لكنه قال لي إنه ليس من النوع الذي يجعل فتاةً جميلةً تذهب حزينةً أمام عينيه، وطلب مني أن أعطيه رقمي لنتحدث مساءً، وهو بالمقابل سيبيعني الخبز بالسعر العادي، أخرجت موبايلي، فأعطاني رقمه لأتصل به مباشرةً، ويتأكد من أن رقمي سينطبع على شاشة موبايله الفخم، كانت العملية السابقة تدور وأنا أفكر “بالأخلاقية النسبية” التي تحدث عنها الفيلسوف الصيني جوانغ زي، الأخلاقية المتحركة والمتأثرة بالحدث والمكان والزمن في ظل غياب حماية المجتمع للإنسان عندما يواجه الضغط بشكل مفرد… من المصادفات الجيدة أن موبايلي من النوع الذي يقبل شريحتي اتصال برقمين مختلفين، في الطريق للمنزل أخرجت الشريحة التي لا أستخدمها كثيراً، والتي تحمل الرقم الذي أعطيته للمسلح وكسرتها، أما رائحة الخبز الذي أحمله فقد جعلتني أردد بسكينة عبارة ماركيز: “عند الجوع لا يوجد خبز سيئ”!
موقع قلم رصاص الثقافي