د. فراس محمد الحميدي |
حين استيقظت في الصباح الباكر، أعددت فنجان قهوة، وجلست إلى الشرفة في منزلي، أشرب قهوتي وأدخن لفافة تبغ، تداعبني نسمات الصباح العليلة، وفي الحقل أمامي عصفوران، يتناتفان حباتِ قمحٍ طرية أو فتات خبز، يقفزان يزقزقان في رقصة حب أبدية، لا يفسدها حجرٌ طائش من طفلٍ مشاكس، فما زال الأطفال نائمين، يمر بائع الخضار، دافعاً عربته وقد رتب عليها بضاعته، كلوحة من ألوان قوس قزح، تغطيها قطرات ندى الصباح المتلألأة تحت ضوء الشمس، قفزت مع العصفورين وشاركتهما رقصهما، فبدوت كعذول بين عاشقين، فطرت دون أن أرتفع كثيراً إلى عربة الخضار، نقرت حبة طماطم، فطردني البائع بحركة غير مؤذية من يده، فهربت محلقاً في السماء الزرقاء، وارتفعت حتى أصبحت الأرض نقطة في الكون اللانهائي، وفي غمرة تحليقي، أجوب غاباتٍ سرمدية من الحزن البشري، رأيتهما طفلين من نورٍ وضياء وجمال، فوقفت على غصن في غابة روحي، ألتقط أنفاسي وأراقبهما، كانا يركضان معاً، يلعبان يضحكان، يشربان من ذات النهر، ماءً من حب وحنان وإخاء، فسبق أحدهما الآخر، وبدا أرنباً ناصع البياض كالثلج، يقفز وينط بمرح، فيبعث في صحراء الروح مطراً من فرح وأمل وحب، وتحول الآخر ذئباً أسود بعينين حمراوين كالجمر، يشتعل موطئ أقدامه – أينما وضعها- ناراً من جحيم، فتحيل الحياة إلى موت، أطلق الذئب أنيابه ومخالبه كرمحٍ، كسهم، كرصاصة إلى الأرنب، فهربت الطيور والحيوانات في كل الاتجاهات خائفة ومرعوبة، وقفزت كغزالة مذعورة، ركضت لأمنع إصابته، وقبل وصولي بلحظة، دوت صرخة ألم مكتومة في جوف الكون الأزلي، فعاد الصدى ناثراً الدم على وجهي وثيابي، وأمطرت السماء دماً غطى كل شيء، الأشجار والحيوانات والأرض، وتساقطت حبات المطر في النهر، فأحالت ماءه دماً من موت وخوف وحزن، والأرنب عاد طفلًا مخضباً بالدم، بجرح نازف، يحدق بأخيه وعيناه تمتلأن دمعاً من حيرة وألم وحزن، حاولت إنقاذه، أجريت تنفساً اصطناعياً، اتصلت بالإسعاف من هاتفي المحمول، ضغطت على الجرح لأوقف النزف، عبثاً لقد فارق الحياة، نظرت إلى السماء، والمطر يتساقط على قلبي وروحي حزناً، فخاطبتها بدمع ونشيج محموم: يا إلهي، يا أيها الرب، يا ملك السموات والأرض، لماذا تركته يقتل أخاه؟!
فجاء الصوت مدوياً في السماء والأرض، منتشراً في أرجاء الكون، وباعثاً الرعشةَ والخشوع في القلوبِ والأرواح: من مات فهذا قدره، ومن قُتل فذاك خياره.
طأطأت برأسي ونظرت إلى الأرض خجلًا أو خوفاً لا أدري، التفت إلى الأخ الذئب، كان قد عاد طفلًا بريئاً، عيناه تذرفان لؤلؤً من الحزن، والندم يحرق روحه ويمزقها، لكن بلا فائدة، فجلس ينتحب عند جثة أخيه، تركته وعدت إلى منزلي، اغتسلت من آثار الدم، وجلست أتابع نشرات الأخبار:
– عشر شهداء بتفجير في بغداد….سبعة بسقوط قذيفة في دمشق……ثمانية في قصف على صنعاء…..عشرات باشتباكات في طرابلس……القاهرة…..
فتسائلت بقلبي: أين القدس؟!
فعاد ذات الصدى حارقاً روحي: لقد ضاعت فلسطين، وأصبحت نسياً منسياً…، فصرخت بقلبي صرخةَ عشقٍ أبدية: إياك أن تنسى، مهما فعلوا، فالعاشق لاينسى محبوبته.
أغلقت التلفاز، وأنا أبكي حزناً، وربما خوفاً من أن أصبح أحد هذه الأرقام يوماً، أو أن يضيع وطني في دهاليز صراعات الأخوة الأعداء، خرجت من منزلي، ذاهباً إلى عملي، في الطريق كانت الأشجار تبكي أوراقها ربيعاً فوق الجثة، والطيور والغزلان تنتحب بمرارة عندها، وهو لا يزال جاثياً على ركبتيه عند جثة أخيه، يتساقط من عينيه لؤلؤ من حزن وندم وحسرة، فوضعت يدي على كتفه، وقلت له:
– لا تبكي، ما عاد ينفع الدمعُ والندم…..!
وتدثرت روحي بحزنٍ من دمعٍ وألم وأسى، فرحلت وتركته ينتظر غراباً، يعلّمه كيف يداري خطيئته؟!
طبيب سوري ـ حماه | خاص موقع قلم رصاص الثقافي