مقدمة:
طلع “الراي” موسيقى وأغنية جريحين من عمق ثقافة جزائرية لطالما ركنته في عمق هامشها التراثي الشعري والمغنى، وكأنه المستغنى عنه، فلا يريدونه أن يسطع؟.
“الراي” منذ البدايات قال فاجعاً بمكاشفاته وكلامه الجريء، فاجعاً بحجم مأساة ما يعلى من عذابات، فطلع أغنية متذبذبة بقصائد شعر ملحون حفظه البسطاء، ولطالما ظل هو الآخر شعرا شعبيا تُلقيه شفاهيات المهمشين وحزانى ومهووسين في بادية الغرب الجزائري.
طلع بقصائد فحول شعرائه الشعبيين شعراً رائعاً، وفي حضن الغرب المتمرد ذاته، بغضبه وثوراته، والعاطفي بروحه وشعرائه، والجريء بمكاشفات المحظور، لعل المرأة أولى تلك المكاشفات، ليمضي بعدها ممتطياً لحن موسيقي مذهلة ترفع القافية والحزن، ومضى بما عرف به أغنية رايوية مثقلة بالشجن والقصيد الغاضب، وبمفرداته الدارجة من لغة عربية لا تنطق جيداً بين شفاه رواده، وأضحت حداثية النطق الرايوي المستجلبة من عذابات الآخر.
طلع من البادية إلى سموات سقف موسيقى العالم، أين أضحى مبهراً كما بداياته، جالبا للانتباه بآهات “شيخاته” الأوائل وشيوخه التابعين وشبابه الحزانى المتربصين بالجرأة والأغنية هادمين طابوهات لطالما أثقلت كواهل أيامهم، إلى أن أضحت أغنيتهم نموذجا للجرح المعلن وإنسانيته، فلا أحد يطيق إبقاءه شجنا للظل، هذا “الراي” الجزائري المقاوم.
خامساً : شبقية شعر شعبي ماجن.
مند أواخر القرن التاسع كان للشعر الشعبي والذي يعرف في البوادي الغربية على الساحل الوهراني بالشعر الملحون، واكتسب شهرة تسميته من لحن بدوي يوضع له ليغني، وقيل من لحن قولي لطالما ترادف مع نطق مقاطع دلك الشعر الذي ما يزال يبهر كما كان، وفي هذا الشعر هناك تيارات ومدارس وما يهمنا هو المعطى الرايوي الذي عاصره، فالشعر الشعبي الملحون شكل عمادة أساسية في ميلاد أغنية ʺالراي ʺ وهو تحديداً شعراً شعبياً ملحوناً وماجناً؟
ورغم أن هدا النوع الأخير كان محدوداً أثره وتراثه غير أن كتابات عن الرايوية تحدثت عنه وبأنه فتح شهية تناولية في معطي الأغنية البدوية في صنفه الملحون الماجن المتغنى بالمرأة، فلم يكن سوى ما سيسمى ʺالرايʺ بجرأته أن يؤدي مقاطع غنائية عن صبابيات وشباقيات عذرية ربما وأحياناً كثيرة كانت ماجنة.
مما يفسر تلك الحاضنة من الملحون الملهم مند أول أغاني ʺالرايʺ في تلك الكازينوهات ونوادي الليل للقمار والخمر، شعر ملحون جريء و ماجن حملته سيرة وتجارب شياخات الراي بمن سبق و من جاء ؟
فمنذ القرن التاسع عشر كانت موجة من الشعر الملحون بدأت تبرز وقد أعلت كتابة شعرية شعبية مؤسسة، تجربة كانت مختلفة قليلاً في وصف المرأة والتغني بأسرارها، وإن الشاعر مصطفي بن إبراهيم يسرد نموذجاً بغزله وحزنه الظاهر، وهو شاعر سيد قومه سكن المنفي وتائب في أواخر أيامه عن غوياته كان نصه ملحون مؤسس يميل إلى وصف متجرأ بإيحاءات غزلية وجنسية لكنها لا تفضح ما يراد ؟
هذه الموجة من الشعر الشعبي أختت في الوضوح مند مطالع القرن العشرين وقبله بعقد أو عقدين وهي من فتحت شرخ عمودي مع الأغنية البدوية ليصير الشرخ فراغاً مليئاً بأغنية جريحة حقاً، أغنية تعلي بالإيحاءات والرموز الجنسية وبالمباشرة أحياناً في القول والتوصيف لعل نماذج شياخته من النساء كأنها خرجت من بوتقة شعراً ملحوناً يليق به وصف الأيروتيكا الكلامية فيما قلصت تجارب لاحقة ذلك الحفر الذي تلقفته بقليل من الفضح تجربة ʺالشيخ حمادة ʺ في أصالة أغنيته البدوية المعلية لتلك الشاعرية الشبقية الغير فاضحة.
ʺالشيخ حمادةʺ بما لا يدري كان مبشراً وتجربته مكتملة بنيانها الغنائي بالرايوية التي لم تكن بعد قد اتضحت، فما تزال رهينة ملحون و قافيته . فكانت أغنيته مميزة فتحت الطريق أمام الراي مند الأربعينات في مقاطع الغانيات والشيخات وكأنهما كانا ربما معاً ممهدان لما سيأتي وصولاً إلى النصف الثاني من عقد الستينات ومع بزوغ أسماء تركت أثرها لعل ʺبلقاسم بوثلجةʺ الصبي الراي مند مراهقته وʺبلموʺ أول من استدخل الآلات الموسيقية كالجيتار الكهربائي الذي بلور صورة أغنية الراي باتجاه النضج.
لتتضح مكامن ملحمته المتجرئة منذ جرأة شعراء الشبقيون وشياخته المتمردات وغانيات وأسماء جديدة وبما نفذ من توظيف عصري في الاستفادة من التيارات الغريبة في الموسيقي والغناء حتى تلك المستقدمة من أمريكا اللاتنية، كلها كانت أمام الأجيال الرايوية الجديدة منهل وجب الارتواء منه في الثلاثينات والأربعينات والستينات وعصر ʺبلاوى الهواريʺ وعياره الموسيقي الرايوي المبدع، فقد كان مجدداً ومعه اكتملت صورة الأغنية واتضح صدحها الرايوي في ليالي المدن وساحاتها، وفي النوادي والبارات المغلقة والكازينوهات وأعراس الأغنياء و علية القوم في المدن الكبرى وفى قاعات الفنادق ذات النجوم المثقلة كانت تصدح، وتحت أضواء هده الفضاءات المغرية جميعا كان ʺالرايʺ أغنيته حقاً جريحة ومأساوية ومتمردة بحناجر من هدهم هامش بالخيبات والشبقيات والإدمان، وأولئك الأغنياء الدين يستهويهم صرف المال على الغانيات لظفر بمقاطع شعر شبقي أو حركات ربما، هؤلاء هم من اعلوا ʺالرايʺ كثيرا بما لا يعرف أحداً ؟
لقد كانʺ بلاوي الهواريʺ رجل الراي المستنير المحافظ، فلم تتلوث موهبته بفظاعات غنائية حقاً جاءت صادمة ولا تطاق؟
عنده اكتمل الجهد الرايوي بآهاته وشعره الملحون ونماذج نجومها، إلى أن أغشته السبعينات والثمانينات التي أضافت مزجاً للأغنية البدوية الأصيلة وتكنولوجيات الصناعات الموسيقية والتيارات الجديدة. والتي تمادت مبالغاتها في عصر التسعينات الذي شهد انفجاراً تجارياً كبيراً مع الأسماء أمثال الملك خالد، والثنائي فضيلة وصحراوي، شاب أنور، صعوداً إلى ملكا الراي العاطفي الشابين ʺحسنى ونصروʺ وهنا يفتح قوس الصنوف الرايوية الأخرى كالعاطفي واللايف والعروبي والمهاجر، كلها شكلت مخيالا حزينا سنده مند القديم وأعلاه لليوم.
وʺالرايʺ في موسيقاه بدأ شرقياً فالمقامات الشرقية ʺكالنهاود والحجاز و الكردʺ لطالما سيجت مقدمات أغانيه ʺالتسخبيرات ʺ تلك المستدخل عليها الجيتار الكهربائي والأكورديون فيما تجلت هده العصرنة برمتها في ʺفرقة راينارايʺ البلعباسية كأروع تجليات تلك الاستفادة التكنولوجية مند منتصف السبعينيات. لقد ملك ʺالراي ʺ قلوب بادية الغرب وساحلها الوهراني وبعد وقت ملك قلوب المغرب العربي الكبير كله، ليقفز إلى جادة الشمال الأوربي أين ملك قلوباً هنالك وممتداً إلى بقية قارات العالم فلقد غني بشتى لغات الدنيا. فالذي كان منبوذاً في موطنه أفتك مهرجانه الأول سنة 1985 بضغوطات رئاسية وبرعاية الحزب الواحد أشد أعداء ويحسبه كثيرين مازال كذلك؟ قد اشترك مع الإسلاموية الجزائرية في كره فهما معاً يعتبرانه خدشاً على جدار طهر الأغنية الجزائرية التي لا يفهمها أحد.
موقع قلم رصاص الثقافي