عادت رسوم كتاب القراءة، للصف الأوّل الإبتدائي، إلى التداول والانتشار بالتزامن من خبر رحيل مبدعها الفنان السوري ممتاز البحرة. وبجولة بسيطة على صفحات مواقع التواصل يلحظ المتابع الإجماع منقطع النظير حول محبة تلك الرسوم لدى جميع السوريين (معارضة وموالاة – داخل وخارج) فهي، دون شكّ، جزء من الذاكرة الجمعيّة السورية، قادرة على تأجيج الحنين إلى زمن الطفولة الأولى لدى أجيال رافقتهم تلك الرسوم في أولى خطواتهم نحو التعلّم. وبذلك عاد أبطال الطفولة (باسم، رباب، مازن، ميسون) ليكونوا نجوم المواقع الإلكترونية لبضعة أيام.
لا تختلف العلاقة مع أبطال هذه الرسوم، لدى السوريين، عن علاقتهم مع أبطال الأفلام السينمائية والنجوم الذين يشكلون في أحيان كثيرة مثالاً (واعياً أولا واعياً) عمّا يتطلعون لأن يكونوا عليه. إنه باسم،الولد المثالي، المهذب، المجتهد، النظيف، الأنيق، بقميصه الأصفر وبنطاله الأخضر وشعره المصفف دائماً، والذي له هيئة رجل صغير لطالما تمنينا لو كنا نشبهه. كذلك هي رباب، الفتاة المهذبة، المجتهدة، الأنيقة، بفستانها الأحمر، وشعرها المسرّح والمربوط بشريطة حمراء تناسب لون فستانها وحذائها الأحمر الذي تظهر من تحته جواربها البيضاء االناصعة.
كنّا أطفالاً نتلمّس هذا العالم بأصابع صغيرة شغوفة، وعيون جائعة للمعرفة، حين وضع الراحل (البحرة) هذه الشخصيات بين أيدينا لحظة دخولنا المدرسة، لترافق النصوص الأولى التي سنتعلّم قراءتها، فنكون بذلك، ودون أن ندري، ضحايا التنميط الممنهج، الذي يصوّر لنا حياة مثالية، تضجّ بالألوان، وتفوح رائحة النظافة والورود والمروج الخضراء من شتّى جوانبها، في وقت كنّا فيه نضطر لإرتداء المريول الخاكي (لون اللباس العسكري) واضعين على رؤوسنا قبعات كحلية اللون يعلوها شعار طلائع البعث المصنوع من النحاس. وبينما كانت عيوننا الصغيرة تلهج خلف ألوان البحرة، وتتوق لأن تبلغ ذلك العالم المثالي الذي يعيش فيه باسم ورباب، كنّا نتعرّض للضرب بالعصيّ إذا ما نسي أحدنا قبعته يوماً ما، أو إذا ما اضطر لارتداء جوارب ملوّنة لأن جواربه السوداء متسخة ولا يملك غيرها، أو لأسباب أخرى كانت الهيئات التدريسية مبدعة بابتكارها دوماً.
كنّا نغار من ملعب المدرسة الذي يخرج إليه باسم ورباب، بملابسهم الملونة، مع التأكيد على أنّ باسم في الملعب يدرس ولا يضيع وقته، بينما رباب تقفز بالحبل بفستانها القصير، وميسون إلى جوارها تلعب بالكرة. كان ملعبهم واسعاً نظيفاً، فيما كنا نخرج إلى ملاعبنا التي تغصّ بتلاميذ يرتدون اللباس ذاته بلونه الخانق، المشابه للون جدران المدرسة المبينية بطريقة تشبه المعتقلات، (ما يفسّر ربّما استخدامها خلال السنوات الست الماضية كمراكز إيواء، أو كمستودعات أسلحة، أو سجون، أو مراكز تدريب عسكرية) في تلك الملاعب كان ثمة ركن وحيد ينعم بالهدوء دائماً، إنّه الركن الذي يحتوي الحمّامات والمغاسل، الحمّامات التي كنّا نتجنّب دخولها تجنّباً للغوص في مياه مجاريها التي كانت على الدوام أشبه ببركة آسنة، لم تكن جدران الحمامات هي حدودها، بل كانت حدودها مرسومة بالمدى الذي تبلغه رائحتها الكريهة، ما جعل ذلك الركن من المدرسة مكاناً خصباً لخيالنا الطفولي حول جنيات تقطن تلك الحمامات وتقوم بأكل كل من يجرؤ على دخولها. وبذلك تحوّل ذلك الركن إلى ملاذ آمن لطلاب الصفّ السادس الراغبين بتدخين سجائرهم الأولى، وتبادل صور السكس المقتطعة من المجلات الإباحية (التي تدخل إلى البلد تهريباً). كلّ ذلك بينما المطلوب إلينا هو أن نماثل باسم ورباب باجتهادهم وطاعتهم وتهذيبهم ونظافتهم. كانت رباب فتاة أحلامنا جميعاً، كيف لا وهي تتفوق بجمالها على كلّ رفيقاتنا في المدرسة، كنا نختلس النظر إلى قدميها العاريتين تحت فستانها الأحمر القصير، ونحب ربطة شعرها الحمراء، بينما زميلاتنا تكسو الكآبة وجوههن التي تعكس اللون الخاكي للمريول.
في بيت باسم ورباب كان “بابا يقرأ، باسم يلعب، ماما تكوي، رباب تطوي” لطالما أحببنا ذلك الدرس الذي يعفينا (كذكور) من أعمال المنزل. إنها مهمّة رباب والماما. نحن علينا أن نقرأونلعب، نحن رجال المستقبل. في جميع الرسوم تنظر رباب دوماً إلى باسم نظرة الإعجاب والدهشة بهذا الكائن العظيم. أجل هكذا نحن الأولاد الذكور، إننا عظماء، بتأكيدٍ من وزارة التربية. لكن ذلك لن يمنع عن باسم أفكارنا الشريرة، إذ لطالما تمنينا لو يكون تلميذاً معنا، يجلس في مقاعدنا فتمزق المسامير بنطاله الجميل. ويهرع إلى الحمّام ليغسل يديه هو المهووس بالنظافة، فيغرق في بحر الغائط والبول، ويذهب إلى بيته بعد ذلك فيستقبله والده بعصا غليظة تأكل من جلده لكونه لم يحفظ جدول الضرب.
في ظلّ هذا الفصام نشأت أجيال من السوريين، وبنظرة بسيطة إلى كلّ ذلك يغدو ما وصلنا إليه اليوم نتيجة طبيعية، فلطالما كانت بالنسبة للسوري “الحياة في مكان آخر”. وبذلك يغدو طبيعاً أن تفشل ثورته، وأن تأكل الحرب أبناءه الذين لم يعرفوا حياة باسم ورباب، وألا يكون باسم ورباب ومازن وميسون وبابا وماما في عداد المتفاوضين حول مستقبله، مكتفين بالجعفري رئيساً لوفد النظام، وعلوش رئيساً لوفد المعارضة.
مجلة قلم رصاص الثقافية