لصنع أغنية يلزم تضافر عناصر ثلاث (كلام، لحن، صوت). هي شروط لازمة، لكنها لا تعني مطلقاً صناعة أغنية جيدة. وبالتالي ستختلف الشروط عند الحاجة لصناعة أغنية جيدة، وسيتعيّن عندئذ إضافة صفة واحدة مشتركة لكلّ من العناصر السابقة، وهي (جيّد) فتصبح شروط الأغنية الجيدة (كلام جيد، لحن جيد، صوت جيد).
هذه المعادلة البسيطة، بالشكل، والتي يفترض أن تكون بديهية، تبدو اليوم عصية على الفهم والتطبيق، بعدما جهد الإعلام على مدى سنوات طوال، لتكريس المعادلة المجردة من النعوت، فتحولت كلّ جملة موسيقية، مهما كانت ساذجة، إلى لحن، وكلّ كلام، مهما بلغت رداءته، إلى شعر غنائي، وكلّ صوت، مهما كانت نسبة النشاز فيه مرتفعة، إلى غناء.
بما أنّ الغناء هو الفن الأكثر شعبية، والأكثر تداولاً، فقد امتاز دوماً بأن يكون معياراً واضحاً لقياس مدى الرداءة في المجتمع، وفي مختلف مناحي الحياة. إنّ شروط صناعة أغنية جيدة، لا تختلف، في المضمون، عن شروط كتابة رواية جيدة، أو قصيدة جيدة، او مقال صحافي جيد، أو اتخاذ موقف سياسي جيد، أو أيّ فعل ذي تأثير على التفكير الجمعي. كلّ فعل جيد يحتاج دون شك إلى صفة (جيد) ملازمة للعناصر المكونة له.
حين تحضر شروط بناء المقال الصحافي (الأكاديمية) لن تجعل من المقال المكتوب جيداً إن كان مبيناً على موقف متطرف، أو يسعى لتحطيم صورة الخصم المتوجه إليه عبر سخرية ساذجة، وشتائم مبتذله، واصطناع فكاهة ركيكة. الأمر ذاته في الرواية، فتضافر عناصر البناء الراوئي لن توجد رواية جيدة، ما لم تكن تلك العناصر مدعومة بموهبة حقيقية، وذكاء روائي يستطيع تجاوز القشور للحديث في العمق. أن تمتلك أدوات الرسم لا يعني أبداً أن تكون رساماً جيداً ما لم تستطع قراءة الألوان وتمازجاتها المختلفة، وما لم تمتلك عيناً مدرّبة على رؤية الأشياء بتجرّد قبل أن تصنع منها كتلة منسجمة.
في كلّ العصور كانت الرداءة إذا أصابت العمل السياسي تنعكس مباشرة على مختلف مناحي الحياة، فتغدو الفنون رديئة، والصناعة رديئة، والعلاقات الاجتماعية رديئة، وحتى الحروب، التي لا يمكن أن تكون جيدة، تتحوّل إلى حروب وحشيّة رديئة.
******
الرداءة هي الوسيلة نحو تسليع الإنسان، وإفقاده قيمته الحقيقية، وتحويله إلى أداة لصراع سيكون هو ضحيته.
*****
في حروب العصور القديمة، كان المقاتلون يخرجون من مضاربهم لملاقاة خصومهم، الخارجين بدورهم من مضاربهم، فيتصارعون، ويصرعون بعضهم بعضاً، فيقضي الفرسان والمقاتلون، فيما أبناء القبائل في خيامهم.
في حروب الزمن الرديء، يتقاذف المقاتلون، المتحصنون بأبناء مدنهم وقراهم، بأسلحة متطورة، فيقضي الأبرياء، ويواصل المقاتلون التقاذف.
*****
الوحشية هي أن تقتل كائناً لا يعرف لماذا يقتل.
*****
من ينتظر في الحرب فريقاً يعترف بأخطائه، ومن ينتظر ألا تحصد الحرب غير الأطراف المتصارعة فيها بمعزل عن الأبرياء، ومن ينتظر نهاية الحروب الرديئة في الأزمنة الرديئة، سيكون أشبه بـ”فلاديمير” و”استراغون” وهما ينتظران “غودو” الذي لن يأتي في مسرحية صموئيل بيكيت. أو سيكون أشبه بـ”دروغو” وهو يهرم في “حصن باستياني” بانتظار قدوم البرابرة، في رواية صحراء التتار لدينو بوتزاتي.
*****
في المشهد الأخير من رواية صحراء التتار، وبينما “دروغو” على صهوة حصانه يغادر الحصن بعدما هرم فيه، وهو يردد أنّ بقاءه هناك مؤقت، سيلتقي شاباً يتجه نحو الحصن، ويعيد معه الحوار عينه الذي دار بين “دروغو” حين صعد إلى الحصن شاباً والتقى عجوزاً يغادره. سيؤكد الشاب لـ”دروغو” أنّ وجوده في الحصن سيكون مؤقتاً، وهو ما سبق لدروغو ان أكده لذلك العجوز، الذي، دون شك، سبق له أن قال الشيء نفسه لعجوز آخر حين كان شاباً.
التتار دوماً على بعد أمتار قليلة، حتى وإن لم يصلوا أبداً، والحياة في زمن الرداءة تمضي خلف أسوار الحصن الشاهدة على أنهار من الدم لا تتوقف.
مجلة قلم رصاص الثقافية