قلم رصاص |
هذا الحوار ــ الوثيقة ــ أجراه الأستاذ الروائي الطيب صالح مع الشاعر نزار قباني بإذاعة الـ «بي. بي. سي» بلندن في أبريل «1973»م. عندما كان الطيب صالح محرراً أدبياً لدى الإذاعة اللندنية، ومسؤولاً عن القسم الأدبي العربي، آنذاك. والحوار نُشرت مقتطفاتْ منه في مجلة «هنا لندن» التابعة للـ ــ بي. بي. سي ــ. ونحن هنا ننشره ــ بعد مضي «40» عاماً منذ نشره وإذاعته أول مرة. ثم قامت بنشره مجموعة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة في مجلة الاتحاد وهي أول مجلة ثقافية مغربية تأسست في «2008م»..
أخ نزار، أنت تقول، في موضع ما، إنك تريد أن تحول الشعر إلى خبز يومي لجميع الناس، وأعتقد أنه إذا كان هناك شاعر معاصر فعل ذلك فهو أنت.. وهذا واضح: فحينما تلقي الشعر، يهرع آلاف الناس لسماعك ــ تفتكر ليه حصل كدة بالنسبة لك؟
القضية بسيطة جداً: أنني أنزلت الشعر من سماء النخبة إلى أرض البشر: فأنا ـ منذ بداياتي الشعرية ـ كنت أؤمن إيماناً مطلقاً أن الشعر المكتوب هو للناس، وأنّ الناس هم البداية والنهاية في كل عمل شعري. إن اسطورة الشعر المكتوب للطبقات الخاصَّة، للأمراء والنبلاء، سقط، نحن في عصر يجب أن يكون المستفيدون من الشعر هم الناس.. قاتلت في الأصل لأؤُصِّلَ هذه النتيجة. وقد تنبأت بذلك عام 1948م في ديواني «طفولة نهد»، وتوصلت إلى معادلة شعرية يكون فيها الناس جزءاً لا يتجزأ من الشعر..
هل هذا الإدراك حدث فجأة أم أنه إدراك نما بمعايشتك لأفكار، ويمكن لشعر أنت رفضته.. شعر لشعراء عرب آخرين؟
منذ البداية شعرتُ أن هناك هوَّة كبيرة بين الشاعر والجمهور. كان هناك نوع من الجدار اللغوي المنيع الذي يحول دون أن يتذوق الناس الشعر. وشعرُنا القديم الذي استمرَّ من العصر الجاهلي حتى مطلع القرن العشرين كان شعراً صعباً لأنه كان يعتمد على التراكيب اللغوية، وعلى النقش وعلى الزخرفة. فأنا أردتُ من الشعر أن يخرج من جدران الأكاديميات، وينطلق في الحدائق العامة، ويعايش الناس ويتكلم معهم..
متى أصدرت أول ديوان؟
أول ديوان لي «قالت لي السمراء»، وقد صدر في دمشق عام 1944م
في هذا الديوان بالذات لك قصيدة عنوانها ــ ورقة إلى القارئ ــ أعتقد أنك تعلن فيها نوعاً من الـبيان ـ قانون ــ عن تجربتك وعما تريد أن تقدمه للقارئ. أما زلت متمسكًا بهذا الــ بيان ـ قانون ــ بينك وبين قارئك؟
أنا لا أؤمن بالأشياء الثابتة. أنا لا أستطيع أن أقول إنّ ما قلته قبل ثلاثين سنة، مثلاً، هو قانون: أنا أتطور مع الحياة، واسمح لي أن أستعمل تعبير ــ أغير جلدي في كل لحظة ــ . إلا أن هناك عموميات أعتقد أن الإنسان يظل مرتبطاً بها. مثلاً، نظريتي التي بدأنا بها الحديث عن تعميم الشعر، أو تأميمه، هي نظرية لا تزال بالنسبة لي صحيحة، وأنا ـ في كل يوم ـ أحاول أن أكسر جدراناً جديدة، وأدخل بيوت الناس من النوافذ ومن الأبواب..
تقصد ماذا ــ على وجه التحديد ـ أنك تغير جلدك؟
أنا لا أؤمن بوجود أشياء مطلقة، ولا أشكال مطلقة. ربما أزمة شعرنا العربي، في عصور الانحطاط، أنه كانت القصائد عبارة عن قصيدة واحدة منسوخة على ورق كاربون: يعني أن الشاعر لم يكن ليفهم عصره أو ليفهم قضية الإنسان. العملية كلها ـ بالنسبة للشعر العربي خلال الألف سنة الأخيرة ـ كانت عبارة عن نوع من الاكتشاف: اكتشاف ما هو مكتشف: كانت عبارة عن كيمياء لغوية. نحن ـ الآن ـ لا نفكر بالشعر كلغة قاموس لا يستطيع أن ينظم قصيدة، وإنما الإنسان هو الذي ينظم القصيدة. لهذا فإن القاموس سقط.. سقط بكل محدوديته القديمة كمجموعة من الألفاظ والتراكيب والقوانين الصارمة التي لا تحتمل المخالفة. نحن، اليوم، نخالف لأنه يجب أن نكون مع الحياة لا مع النصوص الميتة..
لكن يخيل لي، أخ نزار، أنك أكثر الشعراء المعاصرين اهتمامًا باللغة. أنت صحيح تستعمل لغة حديثة بمفاهيم حديثة، لكن واضح في شعرك اهتمامك بالمادة الخام التي هي اللغة التي تعبر بها عن أحاسيسك؟.
أستاذ الطيب.. يجب أن نتفق، أولاً، على مفهوم اللغة.. أنا أعني اللغة التي حاصرتنا زمناً طويلاً في جامعاتنا وفي مدارسنا وفي دروس اللغة العربية وفي دروس الفقه..
محاطة بقداسة؟
محاطة بنوع من القداسة.. وكانوا يقولون لنا إن هذه اللغة كصندوق سحري يجب ألا تلمسها أو لا تفتح الصندوق المخبأة فيه وإلا افترسنا المارد المخبوء في العلبة. اللغة التي أفهمها أنا هي اللغة التي يتنفس بها الناس. أعود بك إلى فكرة نزع الجلد..
أعود بك، أيضاً، إلى فكرة نزع الجلد.. هل يعني هذا أن القصيدة، حين تكتمل، تصبح بالنسبة لك لا تعني شيئاً: تصبح عالماً خارجاً عنك: تكتبها وتنساها؟
القصيدة تنتمي ـ حين أكتبها ـ إلى مرحلة تاريخية. وأعتقد أن بقاء الشاعر في المرحلة التاريخية التي كتب عندها القصيدة تجمده وتوقفه عن الحركة. أنا أحب، دائماً، أن أتجاوز قديمي. طبعاً هذا ليس نوعاً من قلة الوفاء، ولكنني شديد الوفاء لفني. الوفاء للفن يكون، دائماً، بالتجاوز والتخطي. هناك أناس كثيرون، مثلاً، يستطيعون أن يستعيدوا قصائد كتبوها قبل عشرين سنة بدقة آلة التسجيل، أنا عاجز عن القيام بمثل هذه المغامرة.. نشأتُ في منزل دمشقي قديم هو عبارة عن فراديس مختبئة خلف أبواب خشبية صغيرة. قد تدخل في زقاق صغير قد لا يوحي لك بشيء، إلا أنك فتحت باباً من الأبواب الخشبية الواطئة: فتحت أمامك فراديس، فإذا بك تدخل جنة من جنان الوهم: فالشجر والورد والياسمين والمياه الجارية والأسماك والعصافير كلها تتابع أمامك مرة واحدة. هذه الخلفية لعبت دوراً مهماً في حياتي وفي تكوين لغتي الشعرية. في دواويني الأولى «قالت لي السمراء، طفولة نهد، أنت لي» تلاحظ أن أبجديتي التي أكتب بها أبجدية دمشقية، واستعملت كثيراً من الألفاظ الفولكلورية السورية في قصيدة خمس قصائد إلى أمي: استعملت أسماء نباتات سورية غير معروفة في بقية العالم العربي كالشمشير والنفشة.. الارتباط بالأرض هو الأساس. أشعر أن الأرض هي مسرح الشاعر. هذه الواقعية جعلتني حاداً وأقربَ إلى قضايا البشر من غيري من الشعراء.
هذه الطفولة الجميلة ـ كما رسمتَها ـ هل كانت توجَدُ إرهاصات أنك ستكون شاعراً؟
أحب أن أشير إلى ناحية مهمة: إن هذه اللوثة الفنية جاءتني عن طريق جد لي لعب لعبة خطيرة في تأريخ المسرح العربي هو أبو خليل القباني.. كان فناناً من طراز رفيع، وأستطيع أن أشبهه بشارلي شابلن. كان هذا في نهاية القرن التاسع عشر. قاتَلَ المستحيلَ في بيئة دمشقية محافظة كي يضع ـ لأول مرة في الشرق ـ مسرحاً طليعياً. وقد جاوز في مسرحه كل الموروثات، وكان نصيب أبي خليل النفي إلى خارج أسوار دمشق: ذهب إلى مصر، وفي مصر استطاع أن يكون رائداً من رواد الحركة المسرحية التي عرفناها في مصر بعد ذلك.
ألا تحس برابطة زمالة تربطك بشعراء عاشوا قبلك بألف عام أو أكثر؟
أرتبط بمن يلتقون معي في التفكير. خذ، مثلاً، شعر عمر بن أبي ربيعة: أنا أرتبط معه بخيوط الواقعية الأرضية والبشرية. أنت تعرف أن عمر بن أبي ربيعة أخرج الحب كما أخرجته أنا من سراديب الكتب والحرمان إلى الهواء الطلق. أنا أؤمن بالحقيقة: بشاعر يقول بما يريد الناس أن يقولوه. لو كنتُ شاعراً منافقاً لوفرت على نفسي كثيراً من الهجمات والمشكلات واللعنات، إلا أنني أعتقد أن لهفة الشاعر هي وسام: لأن مهمة الشاعر هي أن يضع قنبلة موقوتة تحت عجلة القطار الخشبي المتهالك الذي لم يعد منسجماً مع العصر.
في علاقة الشاعر بالمرأة ـ في دواوينك ـ ما يدهشني، إلى حدٍ ما، هو أن الشاعر في مشاركة مستمرة مع المرأة: علاقة فيها نزاع وصراع يكاد يكون حميماً أكثر مما يجب؟
شوف يا أستاذ الطيب.. لقد أثرتَ نقطة أحب أن أوضحها: إن الخصومة مع المرأة هي المصادر الشعرية الحقيقية. نهايات الحب جعلتني أكتب شعراً أحسن من بداياته؛ حينما ينقطع الخيط، وتثور العاصفة مع حبيبتك فأنت تبدأ بكتابة الشعر. هذا يدعوني لأن أقول إن الدراما في الحب هي الشعر الحقيقي، والفرح في الحب لا يعني شيئاً.. إن الفرح عملية مسطحة جداً: فحينما تكون سعيداً مع حبيبتك تكتفي بسعادتك.. إن الفرح والسعادة عملية أنانية جداً. أمّا حينما يقطع الخيط، أو يدخل الحبيبان في منطقة الدراما، فهنا يبدأ الشعر..
من أكثر قصائدك دراما وعنفاً قصيدتك «الرسم بالكلمات» ؟
هذه القصيدة تعبر تعبيراً عنيفاً عن الأزمة.. الأزمة التي يصل إليها الشاعر حينما يصل إلى مكان مسدود: يعني طريق باتجاه واحد.. هذه القصيدة أسيء فهمها جداً، وأنا آسف لذلك. اعتبرها البعض ممن يقرؤون قراءة مسطحة، أو من يقرأ المكتوب من عنوانه.. اعتبروها قصيدة غير أخلاقية. أنا أؤمن بأن هذه القصيدة هي من أحسن شعري ـ أولاً ـ ومن أطهر شعري: لأني أحاول بهذه القصيدة أن أوجد التناقضات بين ما كان عليه الشاعر وما انتهى إليه.. في هذه القصيدة خيبة أمل رهيبة جداً، وبهذه القصيدة نوع من السأم والعبثية ـ كما يسمونها الآن..
أنا أتفق معك أن القصيدة نقطة تحول في شعرك. يا حبذا لو قلت منها شيئاً..
لا تطلبي مني حساب حياتي
إن الحديث يطول يا مولاتي
كل العصور أنا بها فكأنما
عمري ملايين من السنوات..
موقع قلم رصاص الثقافي