مردوك الشامي |
هل تصدّقون؟
أشعر بفرحة عارمة كلما وصلتني دعوة لحضور حفل توقيع كتاب لأحد الأصدقاء!
لستُ ثرياً،.. ولكني في زاوية ما من أعماقي، أضع ذاتي موقع الكاتب صاحب الدعوة، وأتذكر كم من المرات تملّكتني الفرحة العارمة، حين كنت أدعو الأصدقاء لمشاركتي بصدور مجموعة شعرية أخط على صفحاتها نزيف الشعور.
وأفرح أكثر حين أصل صالة الاحتفال بالمولود الجديد فأرى هناك أصدقاء لم أرهم منذ أزمنة، كلهم جاؤوا كما أنا جئتُ محمّلين بالشوق لعناق الورق المعطّر بالحبر في زمن يستقيل فيه الورق ويختبىء الحبر في الهوامش.
أعرف شعور الكاتب وهو يراقب من لبّوا دعوته،.. أشعر بعصافير قلبه تحلّق صوبهم بأجنحة تخفق بالشكر، وكأنه كان يحتاج إلى يقينٍ ما،.. بأن هناك ثمة من يقرؤون بعد،.. وثمة من يفرحون بصدور كتاب ويفكرون بشرائه. والتجربة علّمتني أن أكثر فرصة يبيع فيها الكاتب بضاعته هي فرصة الاحتفال بتوقيعه لها، فالمكتبات على كثرتها تعلن انكفاء عدد طالبي الكتب، والمعارض على كثرتها واتساعها، تعلن في لوائح الختام غالباً تدني مستوى البيع،.. ومعظم الإعلام يعلن موت القارىء، ودور النشر تضمحل وتتلاشى يوماً بعد آخر،.. وبالتالي يصبح حفل التوقيع الملاذ الأخير للكاتب في أغلب الأحيان، لنكتشف أن الذين يقرؤون الكاتب هم زملاؤه في الكتابة.
المواطنون ينفقون على كماليات لا تضر ولا تنفع الكثير، لكن غالبيتهم لا يفكرون باقتناء كتابٍ، إذا لم يقرؤوه يرصّعون به مكتبة البيت، هذا أن وجدت في البيت مكتبة.
قديماً كانت الناس تباهي بمكتباتها، بكتبها ذات القيمة الأعلى،.. تباهي بلوحاتها،.. بتحفها،.. اليوم تباهي الناس بالجهاز الجوال،.. بالشغالة،.. بالسيارة الأحدث،.. بالستائر،.. بالمفروشات،.. والمسألة ليست كما يلوّحُ بها دائماً أن سبب ابتعاد الناس عن الكتاب ضيق ذات اليد، والحالة الإقتصادية التي تتدهور،.. فشراء كتاب واحد شهرياً، لن يكسرَ ميزانية العائلة،.. وشراء لوحة كل عشر سنوات، لن يؤثر على رصيد العائلة،.. المسألة تكمن في فقدان الناس شهية المعرفة،. في نزوعها إلى الخفة والاستهتار والعبثية واللا منطق.
كم من الأموال تصرف على الولائم والسهرات والافطارات والصبحيات والأمسيات المتخمة بالأطعمة والنجوم..
كم من الميزانيات ترصد للأحذية، والألبسة، والويك أند،.. هل فكرت عائلة ما، بأن ترصد مبلغا سنوياً لبناء مكتبة في المنزل تدل الأبناء على طريق النور؟!
أظن المطابع ستستمر في دورانها، لتنتج الكتب، حتى ولو بقي للكاتب أصدقاؤه فقط، يواسونه في حفلات التوقيع ويقدمون له الدعم والعزاء،.. الكتب هي: أشبه بالديناصورات، كبيرة في قيمتها المادية المعرفية، وحين طاولت الديناصورات السماء،.. قضت عليها النيازك غيرة من تسامقها،.. انقرضت الديناصورات ذات غفلة عن الشمس..
أظن الكتب ديناصورات العصر،.. تحاول أن تقضي عليها نجوم الأرض،.. كلما سطع نجم غناء،.. انطفأ كاتب،.. وكلما أشرقت نجومية راقصة، دخلت شاعرة في شرنقتها،.. وكلما افتتح مركز للتجميل أو الأزياء، كلما أغلق مركز للثقافة..
نيازك السماء قضت على ديناصورات الأرض،.. نجوم الأرض تحاول أن تقضي على كتّاب السماء.
هل تفلح بذلك،.. أظنها لن تستطيع، طالما يدعو الكاتب إلى توقيع كتابه، ويجد من حوله الأصدقاء.
إعلامي وشاعر سوري | موقع قلم رصاص الثقافي