تخفتُ أصوات المدافع رويداً رويداً. وأخيراً سينقشع غبار الحرب مسفراً عن حجم الدّمار والخراب الذي عجزت وسائل الإعلام، طيلة سنوات الحرب، عن تصوير حقيقته.
تحت الأرض أشلاء ودماء ضحايا قُدّموا كقرابين لأفكارٍ يُروّج أنّها أسمى قيمةً من الإنسان. ضحايا أدركوا، وحدهم، الحقيقة لحظة كانوا يلفظون أنفاسهم الأخيرة.
خلف الحدود. خلف البحار، ملايين العيون التي ما تزال تشخص مذعورةً نحو أرضٍ إمّا فشلت باحتضان أبنائها، فراحوا يهيمون بحثاً عن حياة بديلة تضمن لهم الأمل بالعودة يوماً، حتى وإن كان بصفة مغتربين أو سيّاح، لينعموا من حياتهم الماضية برفاهية إلقاء السّلام على أحبّة دفنوهم قبل الرّحيل. أو أنّهم فشلوا بالانتماء إليها، فرحلوا دون أن يتركوا خلفهم شيئاً، مكتفين اليوم بما استثمروه من دماء ضحايا لا يعرفونهم، لكّنهم لم يبخلوا بجهد يدفعهم إلى الموت لتكون دماؤهم مصدراً لأمانٍ ينعمون فيه مع أولادهم في الأوطان البديلة.
فوق الأرض ركامٌ. فوق الأرض حطامٌ تدمع عيون كثيرة وهي تنظر إليه كبقايا لبيوتها المدمّرة، وتلمع عيون كثيرة شاخصة إليه كاستثمار لما بعد الدّم.
يخفت صوت المدافع، يخفت أزيز الرّصاص، يخفت هدير الطائرات. تزامناً تعلو أناشيد النّصر. يُضاء معرض دمشق الدولي. يواصل علي الديك جعيره الذي لم ينقطع. يفشل المنتخب السوريّ لكرة القدم بالتأهّل إلى نهائيات كأس العالم، لكنّه ينجح ببلوغ الملحق المؤهّل للبطولة، فترتفع أبواق السيارات وأزيز رصاصات الابتهاج، لتغطّي، لحظاتٍ قصيرةٍ، على صخب الاستثمارات القادمة لاهثةٌ خلف إعادة الإعمار. صخبٌ تشترك فيه كلّ الجهات التي لهثت للاستثمار بالدم والسلاح سنوات طويلة. فمن سدّد الثمن الباهظ لقذيفة دكّت بيتاً فوق أجساد قاطنيه، لا بدّ أن يستعيد ذلك الثمن، مع أرباحه، وهو يبني بيتاً سيسكنه آخرون، ريثما يحين موعد التضحية بهم.
وسط كلّ ذلك يعيش من أخطأتهم الحرب، من الفقراء، بقايا حياةٍ مكلومة، لا يملكون فيها، بعد العضّ على جراحهم النّازفة، غير الحلم. حلمٌ مستحيلٌ، لكنّهم يقتاتونه تجنّباً لشعورهم بالذنب إزاء إنجابهم أطفالاً في زمن المقتلة. حلمٌ يرون فيه أنّ ما حدث كان ثمناً لبناء وطن حقيقيّ سيعيش فيه أبناؤهم وأحفادهم حياةً يفاخرون فيها بإنسانيتهم. وطنٌ لن تبنيه شركات الاستثمار العالمية ولا وكلاؤها. وطنٌ لن يكون مساحةً عقاريّة تلزّم لحيتانٍ ووحوشٍ ومجرمين أثروا على حساب دماء أبناء جلدتهم. إنّهم يحلمون بوطنٍ يبنونه بعرقهم بعدما رووه بدماء أولادهم. وطنٌ يمنحهم هذا الحقّ باعتبارهم “أمّ الصبيّ”.
مهما يكن مستحيلاً، غير أنّه حلمٌ مشروع لأولئك الذين لم يملكوا غير فقرهم وطناً. لهم أن يحلموا بمدنٍ حضاريّة يعيشون فيها دون خوف. لهم أن يحلموا بقرى جميلة هادئة يستثمرون أرضها بفرح. لهم أن يحلموا بمؤسّساتٍ تُعلي شأنهم وتجعل من إنسانيتهم القيمة الأسمى. لهم أن يحلموا بتعليمٍ متطوّرٍ يناله أبناؤهم فيندفعون للانخراط بالعمل في بلدٍ لا مكان فيه للبطالة. لهم أن يحلموا بأن ينال كلّ منهم أجراً لقاء جهده يكفيه شرّ القلق بشأن قوته اليوميّ. لهم أن يحلموا بتحوّل المؤسّسات الأمنية إلى مؤسّساتٍ ترعى أمنهم وتحميهم، وتكون ضمانةً لحريتهم، وليست أمناً عليهم تراقبهم ملوّحة بالعصا.
لهم أن يحلموا بمؤسّسة عسكرية ينضوي تحت لوائها، فقط، من رأى في نفسه مقاتلاً، ولا “يُساق” إليها أحدٌ قسراً. لهم أن يحلموا بضمانٍ صحيّ، وضمانٍ لشيخوختهم. لهم أن يحلموا بجامعات متطوّرة تنشأ على حساب جوامع ودور عبادة يكفي القليل منها لمن أراد ممارسة شعائره فيها. لهم أن يحلموا باعتبار الدين شأن شخصيّ، وبتحوّل المؤسّسات الدينية لمؤسسات رعايةٍ اجتماعية. لهم أن يحلموا بتطوّرٍ صناعي وتجاري وزراعي وسياحي يكونون العصب الأهمّ فيه وليسوا وسائل تُستغلّ ليَسرِق قلّةٌ جهدها. لهم أن يحلموا بتحوّل كلّ المناصب في بلدهم إلى أعمال شاقّة لا يجرؤ على توليها إلّا من آمن بقدرته على تقديم ما فيه خيرٌ لمواطنيه، وامتلك جرأة أن يَخضعَ للمحاسبة إن أخطأ. لهم أن يحلموا بقضاء عادل ينشأ كسلطة مستقلّة تحصّن حقوقهم من الهدر.
لهم أن يحلموا بصحافة ووسائل إعلام حرّة ومهنيّة تكون صوتهم حين يُعلونَه. لهم أن يحلموا بأن يجد المبدعون من أبنائهم حيّزاً للتعبير فيه عن أنفسهم، وتقديم أعمالهم استناداً لقيمتها الفنيّة العالية فقط. لهم أن يحلموا بمواصلات حديثة تسهّل تنقّلهم بين مدن الجمهوريّة وقراها، بسككٍ حديدية متطوّرة تربط تلك الأمكنة ببعضها وتشدّ أواصرها. لهم أن يحلموا ببيوتٍ يسكنونها دون أن يُمضوا أعمارهم لاهثين لجمع ثمنها.
لهم أن يحلموا بأن يُنجبَ أبناؤهم أولاداً لا يخافون مستقبلهم. لهم أن يحلموا بأن ينتموا إلى وطنٍ له اسمٌ مجرّدٌ من كلّ كنية، اسمٌ واحدٌ تمتلك حروفه القدرة على أن تكون خيمة تظّلل مساحة الوطن كاملة. لهم أن يحلموا بأنهم لن يكونوا بعد اليوم جماهير، ولن يكونوا شعباً، بل مواطنين. مواطنون فقط. مواطنون دفعوا أعمارهم ودماء أبنائهم ثمناً لحلمٍ يبدو مستحيلاً، لكنّه، دون شك، حلمٌ مشروع.
مجلة قلم رصاص الثقافية