الرئيسية » رصاص ناعم » سبع رسائل إلى راوية عمران
لوحة الأم للفنان لؤي كيالي

سبع رسائل إلى راوية عمران

(1)

كان لابد لي أن أعي الفرق بين صلابتي بعد انحرافات حياتي الحادة وبين هشاشتك الأولى في التشكل، لا أعلم من أين جاء يقيني بأنك قوية مثلي، و أننا سننجو معاً من إرهاق المعاملات البيروقراطية والركض وراء سراب الأوراق ووحشة المسافات الشاسعة في أوروبا, لكنك مجرد جنين, جنين هش ومن حقه أن يأخذ وقته ليصير صلباً، سامحيني فإقناع النفس ببعد أسطوري داخلها، أو إيمانها بأنها أقوى من الظروف هو طوق نجاتها حسب لا وعيها الباطن، لا شيء مميز في الحقيقة يا راوية، أنا أعرف هذا، هي الأسوار التي بنيتها لصورتي عن نفسي وتعليقي تميمة “حمالة الأسية” في عنقي الفلسطيني، وهي أشياء لم يتحملها جسدك غير المتكون وروحك الخفيفة، أقصد أنك أكثر واقعية مني وأقل رومانتكية وعندما لم تكن المقدمات التي بنيتك فيها داخل رحمي تؤهل لنتائج ظهورك إلى هذا العالم قررت الرحيل، أنا فخورة بك يا راوية رغم كل هذا الحزن، لا أدوار بطولة وهمية ولا محاولات لتحميل روحك ما لا تحتمل ولا تنازلات مقابل فتات يسمى حياة ولا مثاليات فائضة، أما أن تنالي حقوقك كإنسان بكل المعايير التي وفرتها هذه الألفية وأما لا، أنا أحترم هذه اللا، أنت قفزت على وعي أمك وأعطيتها درساً في الحياة، وأنا أعدك أن أحفظ هذا الدرس ما حييت وأحاول أن أكون أكثر براغماتية وأقل تراجيدية مما أنا عليه الآن.

(2)

عندما أخبرتني الطبيبة إن كنت أريد أن أدفنك قلت لها لا، سامحيني يا راوية لا مقابر عائلة لدينا لا في ألمانيا ولا في السويد أين نحن من مخيم درعا ومخيم النيرب، أين نحن من قريتك تير معلة في ريف حمص، كما أنني محملة بعشرات الآلاف من الجثث التي قضت في سنوات الحرب في سورية، أرواحهم معلقة في روحي التي باتت ثقيلة، لكنني أعلم أنني سأدفنهم يوماً حيث ماتوا في سورية طبعاً عندما أشفى، أما أنت فلا أريد دفنك هنا، أعني ما زلت أحلم بالعودة إلى سورية، لا أريد أن يكون قبر  ابنتي في ألمانيا، لا أريد أن أدفنك في هذا التراب الغريب، كان من الأهون علي ألا أعرف عن مصيرك شيئاً من أن يصبح لي في هذه البلاد قبر  يعنيني لأزوره، من المؤسف هذه المازوخية مع أنفسنا، لا يحظى أطفال سورية بالدفن في الغالب أقصد الذين تفحمت جثثهم بالبراميل المتفجرة وقذائف الهاون، والذين اختفوا وكأنهم ذوبوا بالأسيد، كانت فكرة عادلة وكفى، أو أنني أضعف من أحفر قبراً لك وأبكي عليه…

(3)

عندما جاءت الممرضة وأخبرتني أنك ستدفنين في نيسان في قبر جماعي لكل الأجنة الميتة في المشفى عرفت أن الإنسانية أنقذتك مرة أخرى من مازوخيتي، لن تكونين وحيدة وسيكون معك الكثير من الأصدقاء في مكان يتجاوز عقدي الضيقة عن الهوية والأوطان، مكان أنصفك وأحترمك وساواك بأجنته، وسيحاط قبرك بالورد والشموع والبالونات الملونة لا أعلم إن كنت سأستطيع الحضور لكنني مطمئنة عليك الآن، مطمئنة لأنني رغم قراري الغبي لم أحرمك من خيار أفضل لم أكن أعرفه أصلاً، وهو أنك سترقدين بسلام مع عشرات الأجنة من كل الأعراق والأديان، ها أنت تتجاوزينني مرة أخرى !

(4)

عرفت أنه يحق لي أن أطلق عليك اسماً واستلمت أوراقاً ترشدني لأتم هذه المهمة وأنا قررت أن أسميك راوية لم أجد أحداً من عائلتنا موافقاً على هذا الاسم، كان الحل الوحيد لتحظي به أن ترحلي! ربما هو قديم الطراز حقا لكنني أنا نفسي قديمة وما زلت أعشق مسلسلاً كرتونياً يحمل اسمك كما أنني أحب الروايات ورغم أنني صامتة إلا أن عقلي ثرثار ويحب الحكاية، وافترضت طبعاً أنك مثلي تحبين أن تروي، شهرزادي الصغيرة كنت للمفارقة ستصبحين من برج الجوزاء وهو أكثر الأبراج ثرثرة على الإطلاق، كنت أعلم أن رسالتي في النقد الروائي التي لم تكتمل ستكتمل معنويا على الأقل بوجودك. أرى الاسم يليق بك حقاً، وإن وصلتك رسائلي بطريقة ما، لن تحتاجي لسؤالي لماذا سميتني راوية؟

(5)

لماذا حدث ما حدث؟، الأمومة مقدسة فعلاً، أعني هذه القدرة العجيبة في الخلق، ربما الشريرات لا يصبحن أمهات، المقام طاهر فعلاً وأبيض مثل مهد ونظيف ونقي وأنا شريرة يا راوية، ولدي أفكار غريبة، الحرب شوهتني كثيراً حتى تحولت لمسخ وأخلاقياتي تشظت هنا وهناك، الشريرات لا يصبحن أمهات، لقد أصبحت بشعة، كما أنني كذبت كثيراً خصوصاً أنني كاتبة! وناورت عندما كانت الأخلاق أقوى من استطاعتي، كان علي أن أخسرك يا راوية كي أدفع الفاتورة المترتبة علي تجاه الحياة، وكانت الفاتورة أقسى مما تخيلت.

(6)

لماذا تيقنت من أنك بنت… إنها الخرافة يا راوية، العادة والتقليد وتراثنا المدقوق مثل وشم في لا وعينا الجمعي وأنا اشتهيت الطعام الحلو وأحسست أنني ازدت جمالاً، لذلك رأيت بنتاً، هناك من يقول لك أنا أؤمن بالعلم، هؤلاء بشر قساة يا راوية، أنا أؤمن بما أحب ولقد أحببت دائما أن يكون لي” بنت تلون بالأحمر حياتي الشاحبة”!

(7)

أحبك.

 مجلة قلم رصاص الثقافي 

عن وسام الخطيب

وسام الخطيب
كاتبة فلسطينية، خريجة كلية الآداب قسم اللغة العربية في جامعة حلب سورية، تكتب وتنشر في العديد من الصحف والمواقع العربية.

شاهد أيضاً

رولا عبد الحميد تقول: إنها تجلس وحيدة في حضرة المحبوب

يقوم نص الرواية على حكاية حبَ بين حبيبين لا يلتقيان أبداَ، يدقَ قلبها، وتشعر بالاضطراب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *