ياسر الشرقاوي |
أوشكت الحافلة على الانطلاق، السائق الخبير تحاشى انتظار مسافر أخير يشغل المقعد الفارغ في حافلته، فالحر الشديد سيهيج أمزجة المسافرين، ويجلب له المتاعب، لكن رجلاً مبهدل الهيئة صعد الحافلة في اللحظة الاخيرة، وقد بدى عليه الحرج لسوء حاله، وتفاقم شعوره هذا عندما جلس في المقعد الفارغ يقابل رجلاً مبالغاً في أناقته، ولم يخف هذا الأخير امتعاضه من هذا الرفيق في هذا السفر.
ــ أرجو ألا أضايقك يا سيدي، تبدو رجلاً محترماً، وأنا أيضاً رجل محترم، لا تعطي بالاً لثيابي المتسخة وللقذارة تحت أظافري، وتلك الفوضى في شعري انس أمرها، لأني قد خرجت تواً من السجن، لا لا، لا يذهب تفكيرك بعيداً، لست مجرماً، مجرد اشتباه والحمد لله، انقضى كل شيء..
ماذا أقول؟ كل البلاء من النساء، أنا وزوجتي نحب سامي، طفل في الثانية، أول مولود لعروسين سكنا مقابل شقتنا، لكثرة دلالنا له صار يتسلل كالقط إلى شقتنا، وأمه تطمئن لوجوده بيننا، في ذلك المساء تركه والداه عندنا، كانا مدعوان لحفل خطوبة، على الفور أحضرت له زوجتي صحناً من الرمان فنثر بعضاً منها في أرجاء الصالة، ثم قام بدهسها فرحاً بتلك البقع الحمراء التي تظهر تحت قدمه الصغيرة، لامرأة مهووسة بالنظافة مثل زوجتي كان تصرف هذا الشقي الصغير بمثابة الكارثة، وبختني وحملتني مسؤولية سلوكه هذا، قلت لها: “لم أنتبه كنت مركزاً بنشرة الأخبار”، لم تقتنع أن تركيزي كان بنشرة الأخبار بل بالمذيعة الجميلة، قلت لها: “نعم هي جميلة وفاتنة، ولكن هل يغطي جمالها تلك الأحداث القبيحة التي تقرؤها لنا؟”
العالم يتجه نحو الهاوية وأنت لا يهمك سوى أن المذيعة جميلة؟ لم تكف عن الزمجرة وادعت أني لم أهتم يوماً بالسياسة، استفزني هذا كثيراً، والحقيقة أنا شخص أخرق سريع الغضب نثرت ما تبقى من صحن الرمان وخرجت من المنزل وأنا أكيل لها الشتائم..
يومها بالذات لم يكن لدي رغبة للذهاب للمقهى ولعب الورق مع شلتي ولكن هذا ما حدث، وما أن بدأنا اللعب حتى دخلت المقهى مجموعة مدججة من (أولئك) يبحثون عن مطلوب اسمه )سالم).
ومن يراكم ويبقى سالماً؟
هكذا قال أحد أفراد شلتي ممازحاً، وقد كان ثملاً بعض الشيء، كان موقفاً كوميدياً، لم أتمالك أن أتجاهله فأطلقت قهقهة مدوية أصابت عدواها كل من في المقهى بموجة من الضحك..
لاشكّ كانت حماقة لا تغتفر، ليس هناك عاقل يمازح (أولئك).
كيفما اتفق حشرونا في سيارتهم وأحدهم من شدة خوفه وتشنجه وصل مركز الاستجواب وهو يضغط على ورقة لعب كانت (بنت ديناري)، المهم أفرجوا عن أصدقائي الثلاثة بعد يومين، حصلوا خلالهما على تربية تجعلهم مؤدبين مدى الحياة، وبقيت وحدي لأني لم أكن أحمل بطاقتي الشخصية، وبذلك قد أكون أنا “سالم” الذي يبحثون عنه، وسافروا بي إلى مركز اعتقال في هذه المدينة، لن أذكر دروس التربية التي لقنوني إياها طوال أسبوعين قبل أن تتمكن لمياء من زيارتي …
لمياء ابنة أخي موظفة في الداخلية، تمكنت عن طريق معارفها أن تستدل أين أنا، فرحت جدا بزيارتها طمأنتني أن الأمور على يرام وأن بطاقتي الشخصية صارت عندهم وسيفرج عني قريباً، يا لها من فتاة طيبة، تخيل أنها أحضرت لي معها فروجاً مشوياً، نعم هذا أمر يدعو للدهشة، فهي من هؤلاء الذين يقال عنهم: “نباتيين”، لطالما صدعت رؤوسنا بضرورة أن نتحول مثلها، ونصبح كالخراف والأرانب ونكتفي بأكل الخضار، وأن أكل اللحوم ضرب من التوحش، كانت تاكل الحمص والتبولة عندما كان أخي يدعونا لرحلة شواء أيام الربيع، ورغم ذلك رفقت بي، وخالفت قناعاتها وأحضرت لي فروجاً مشوياً، أيوجد أطيب من هكذا فتاة؟، لو أن هذا الجحش يدرك ذلك، أقصد ابني الكبير، هي تحبه وتتودد له، لكنه بكل وقاحة أخبر والدته أنه يريد أن يخطب ابنة إمام المسجد في حيّنا، أخبرتني بذلك قبل المشاجرة بقليل، قلت: “لا والله لن أضع يدي بيد هذا المعتوه الذي لا يعرف أي شيء حلال، ويكفرنا لأهون الأسباب، ويحرض الله كل يوم جمعة لحرقنا في جهنم”، الغريب كيف استطاع هذا الوغد تطبيق بنت الإمام؟ والأغرب أن أصدقاءه يقولون: إنه يحمل أفكاراً شيوعية، دعك من كل هذا، تراني خرجت عن الموضوع.
هذا الصباح أكملت عشرين يوماً في المعتقل، جاء السجّان أعطاني حذائي وبطاقة الهوية ودفعني خارج هذا الجحيم، حقاً يا له من نعيم أن يتنفس الإنسان هواءً وبطاقة الهوية ودفعني خارج هذا الجحيم، حقاً يا له من نعيم أن يتنفس الإنسان هواءً نظيفاً ويرى الأفق، وعندما أصل بيتي سأقضي ساعتين تحت “الدوش”، وأشعر بالنظافة فتكتمل سعادتي وسأحاول أن أنسى تلك المهانة التي لحقت بي وأنا بهذا العمر، مهانة ما كانت لتحدث لو أن سبباً واحداً لم يتحقق، لو أن زوجتي لم تكن غيورة، لو لم أشاهد حينها نشرة الأخبار، أو بدل المذيعة الجميلة كان مذيعاً، لو أن سامي الشقي لم يهرس الرمان أو بدل الرمان كان شيئاً آخر، البوشار مثلاً.
لو أن والدا سامي لم يذهبا إلى تلك الخطوبة التي لأجلها جاء سامي عندنا، لو أن تلك الخطوبة ما كنت لتحدث أصلاً.
لو أني أخذت سترتي حيث كانت فيها بطاقة الهوية حين خرجت غاضباً، لو أن صديقي لم يكن ثملاً ومازحهم، وجعلني أقهقه والأهم لو كان هذا الـ (سالم) مواطناً شريفاً لا يبحث عنه أحد..
تنهد الرجل الأنيق ورسم ابتسامة ساخرة، وقال: المهم أنك تنعم بالحرية الآن، حمداً لله على سلامتك، وأخرج كتاباً من حقيبته وقال: أرجو المعذرة أنا أحب القراءة أثناء السفر .
خاص مجلة قلم رصاص الثقافية