لورين نبيه المحمد |
2004
وسط مدينة حمص.. منطقة تجارية متزاحمة المباني والمحال التجارية المحدّثة غير الحديثة.. القديم اللامبالي الوحيد في كل هذه الحداثةـ أو ربما تقليد الحداثةـ
كان دوماً هناك في ميمنة طريقي، محل ميزته هو أنه كان يمتلك داخله حكايات وعَبق من أجمل الإنتاجات الإنسانية. محل يمتلكه العم أبو شريف ذو الابتسامة الدائمة وبشاشة الوجه المميزة الظاهرة تحت سماكة نظاراته الشاهدة على عدد الأوراق الصفراء التي مرت أمام عينيه بتمعن.. كانت كتبه مبعثرة كأفكاره التي بعثرتها السنين.. والمعتقة بغبار يشهد على ملله من روتين الحياة وهجر الناس للقراءة التي وهبته حس فكاهة وابتسامة لطيفة لجيرانه ..كل كتبه والسلم الخشبي ذو الصناعة اليدوية الذي يقف عليه يذكرك بحقبة قديمة، وكأنك دخلت من بوابة الدكان الصغير إلى تاريخ آخر.. زمنٍ سحري ..
في أحد الأيام دفعتني قدماي لأدخل إلى ذلك المكان، دون أي علم لدي عما أريده ولكن أبحث عن شيء ما!!
قلت له: أريد أن أقرأ شيئاً ..
رغم سنينه فإن هذه الكلمة أيقظت بريق عينيه الباهت بفعل الزمن .. نهض متحمساً .. تودين أن تقرأي.. يا جارتي العزيزة.. ودون تردد تلقف كتاب “حكايات حارتنا” لنجيب محفوظ… أخذته دون تردد اذ قرأت اسم الكاتب وأنا أهيئ النقود..
-لا .. خذيه إن أحببته تدفعين ثمنه أو أعيديه….
كم عشقت الخيال الذي منحني إياه بتفاصيله وتلك الروايات التي لا تخلو من سخرية لذيذة، وحين ذهبت لأدفع ثمن المتعة والخيال قال لي:
-كيف هذا؟؟ حقاً أعجبك ؟؟
-لا أعتقد أنك تريدين الاحتفاظ به لدي لك كتاب أجمل كنت قد نسيته ! ..
وأخذ الكتاب وقدم لي بديلاً.. واستمر بحيلته خفيفة الظل وأنا استمريت بإلحاحي على أجر أو ثمن..
أبو شريف أهداني القراءة ولم يتقاضى أجراً .. وبقي الكتاب يتبدل بذريعة أنه (لا يليق بكِ .. أحببت لكِ هذا !!)
لم أكن أعلم أن أبو شريف قدم لي هدية من دكانه الصغير المزدحم الكبير سأشكره عليها ما بقي من عمري ..
علمني أن أصادق الكتاب.
ولكن أبو شريف لم يكن يعلم أن لشدة حبي لهذه الكتب لكنت وددت لو سمح لي أن أحتفظ بها كلها في مكتبتي الخاصة .. لأتذكر حيلته الصغيرة ووده الكبير .. ربما كان يعلم أن ما يقدمه لا يقدر بثمن اختفى الحي ودكان أبو شريف المعتق بكنوزه، سرقت بريقه الحرب..
تلاشوا في يوم من أيام شهور تلاشت ما بين 2011 و 2016 .. لم يختر أبو شريف أن يكون لقصته نهايةً تُكتب أو تؤرخ.. كأن روايات دكانه اختارت له النهاية الاكثر غموضاً ..
بقيت أتذكر الشخص وأتأثر كل يوم بتلك الهدية، لأني بعد هذه السنين أعلم ما يمكن أن يصنعه كتاب بحياة إنسان أو بفكره.
ربما كل النهايات تشبهه، وبقيت هداياه تذكرنا بطيب العيش في مدينةٍ نتذرع الحيل فيها لنقدم هدايا عظيمة.
لروح أبو شريف
خاص مجلة قلم رصاص الثقافية