الرئيسية » يوميات رصاص » يوميات حرب طائفية أهلية بمحلية (40)

يوميات حرب طائفية أهلية بمحلية (40)

على يسار الطريق ظهر خط متلألأ ازرق، نحيل، يُلحظ بالكاد ثم توسعت مساحته تدريجياً لتحتل ذلك الأفق البعيد ليتحول إلى سطح من الفضة الزرقاء..

– البحر..

قلتها وأنا ألامس كتفه برفق ليصحو من إغفاءته..

ناعساً فتح عينيه فرأيت فيهما عميقاً دهشة من يرى البحر لأول مرة..

فتى حلبي في الخامسة عشرة يغزو النمش أنفه وخديه، أخبرني بحماسة أنه قرر مرافقة خاله سائق الشاحنة، فقط ليرى البحر ذهاباً وإياب، لم يخبر أحداً من أخوته ولا أمه، أراد أن يفاجئهم في المساء بالخبر، فرحاً لوعد خاله أن يتغديا سوياً على شاطئ البحر ويركبا القارب إلى أرواد بعد انتهائهما من معاملة في جمارك طرطوس. سألته عن حلب، فقال أنه لا يذكرها فقد كان صغيراً حين تهجرت أسرته منها لتستقر في ركن الدين الدمشقي، ويبدو أن الأسرة لم تعد تنوي العودة بعد أن فقدت بيتها هناك، ونسي الأولاد تفاصيل المدينة التي ولدوا فيها، وخلقوا تفاصيل جديدة مع مدينة أخرى احتضنتهم على سفح قاسيون.

*****

صوت أطلاق رصاص وصدى انفجارات بعيدة، لم اتحرك من مكاني حتى حين ارتجّ البيت قليلاً ودخلت دفقة هواء قوية من النافذة ناتجة عن ضغط الانفجار، على الشريط الاخباري يظهر خبر عاجل بأن “الأصوات التي يسمعها سكان دمشق ناتجة عن تفجير أنفاق للإرهابيين في داريا”، فكرت بالماس الكهربائي الذي ضرب مطار المزة العسكري منذ أسابيع وقلبت المحطة لأتابع الفلم الهندي. نغمة رسالة مسنجر على موبايلي، مهند يطمئن علي من فرنسا، فإسرائيل تقصف مطار دمشق الدولي.

بلدي انهكته الحرب، وانتَهكت سماؤه جميع أنواع الطائرات والصواريخ الدولية، أما أنا فمنهكة من فكرة أنني قررت البقاء وظللت متمسكة بنقطة نور خابٍ في نهاية نفق لن ينتهي. لم تعد تهمني الحدود الجغرافية التي حددها سايكس وبيكو لترسم سوريا التي تمسكنا بها بداية الحرب، لم أعد أخاف من فكرة التقسيم، لا أخاف من الضربات الإسرائيلية ولا الأميركية، ما يخيفني حقاً المدارس والجامعات الشرعية، تعليم القرآن في رياض الأطفال، الشباب الديني وتمدد صلاحيات وزارة الأوقاف لتشمل جميع مؤسسات ما تبقّى من الدولة.

أجل.. أنا مصابة بمرض نفسي يدعى الإسلامفوبيا.. وفي هذه الحالة النفسية المعقدة لن يفيدني لا الموتيفال ولا الزولام.

أطمئن مهند أن كل شيء “عادي”، وأعود لمتابعة الفلم الهندي دون أن انهض عن الصوفا.

*****

مرت ثلاثة أيام منذ أن غادرت دمشق بعد تفجير أنفاق الإرهابيين في داريا، وها أنا أشهد الألعاب النارية التي تضيء ليل الساحل السوري لتتحول سماؤه إلى لون الدم، معركة تدوم حوالي النصف ساعة، اشتباك عابر وينتهي كل شيء وكأنه لم يكن ليتحول إلى مجرد خبر على محرك البحث. أتابع خرائط تحرك الطائرات في السماء من التعليقات على الفيسبووك وأفكر: كم هي واسعة سماؤنا لا حواجز فيها ولا نقاط حدودية، الحركة فيها سهلة، يختلف وقتها كلياً عن الزمن الأرضي، كل شيء يجري بسرعة ودون تعقيد، وكأنها مجرد شاشة كبيرة للعبة قتالية بين الدول والممالك.

البحر هادئ في الصباح، كسطح مرآة دون أية موجة، أجمع الرمل في قبضتي ثم أفلته ببطء لتذروه الريح كما تذري رماد الموتى في الأفلام الهندية، طائرتين هليكوبتر تجوبان سماء الشاطئ على ارتفاع منخفض في جولة استكشافية، على هيكلها المعدني الرمادي نجمة حمراء من أيام السوفييت، أحد الجنود يجلس بالباب المفتوح حاملاً رشاشاً يصوبه نحو الشاطئ حيث أنا مع بعض الصيادين المبكرين يسحبون شباكهم المليئة بأسماك طفلة لا تصلح للشيّ، يمر عبر ذاكرتي مخزون من أفلام أميركية عن حرب الفيتنام، تحوم الهليكوبترات في سماءها بالطريقة ذاتها مستطلعة الأعداء الكامنين على الأرض، أو أفلاماً أميركية أخرى في الصحراء الليبية أو فوق الأراضي العراقية أو في أفغانستان، فالأميركان يغزون الكون في أفلامهم وينتصرون على الأشرار كما يفعلون في شمالنا السوري.

تختفي الطائرتان لتعودا إلى قاعدتهما القريبة فألتهي بإزاله الملح المتخثر على زغب ساعدي، يلمع تحت الشمس كنقاط صغيرة من ألماس.

يتصل مهند مرة أخرى ليطمئن، يبدو قلقاً بجدّ فأضحك:

– ضل بس درعا والرقة ما واكبت الحدث فيهون لايف..

ألم تعتد على حرب العراق يا مهند؟ ألم تعتد على الحصار وحظر التجوال؟ ألم تعتد على التصفيات الطائفية والسيارات المفخخة؟ أم أن العراقيين جميعاً أشدّ حساسية منّا نحن السوريين؟ تدمع أعينهم لمناظر الدمار بينما نحوّل نحن السوريين الأمر إلى نكتة، نلبس كمامات ونتصور على البلاكين ونحن جالسون نفصفص البزر بانتظار ضربة أميركية، أو نتصور ونحن ندخن الأركيلة، نشرب القهوة ونراقب السماء المليئة بالطائرات، وبدل أن نختفي في بيوتنا عند نزول قذيفة نركض إلى الشارع لنتأكد من كم الضرر الذي ألحقته بسيارة الجيران ونحسب الأضرار على الفور.

أرفع رأسي نحو الأفق، بارجتان حربيتان تخترقان قرص الشمس الأحمر الآيل للسقوط في البحر والانطفاء، انتظر تلك اللحظة التي يصبح الماء فيها أكثر دفئاً ويَحُلّ لون الأحمر فيه، بينما يعج الشاطئ بالسوريين الهاربين من مدنهم المزدحمة بأخبار الموت والضجيج ودخان السيارات والازدحام إلى هذا الأحمر.. الدافئ.. الكثيف بملوحته كالدم.

البوارج الحربية

الألعاب النارية

هلكوبترات استكشاف

29/9/2018

 خاص مجلة قلم رصاص الثقافية 

عن آنــا عـكّـاش

آنــا عـكّـاش
كاتبة ومسرحية سورية، إجازة في اللغة الإنكليزية، إجازة في الدراسات المسرحية، دمشق، ماجستير في العلوم الثقافية وفنون العرض، تونس، عضو في اتحاد الكتاب العرب، وفي نقابة الفنانين، مؤسس فرقة "مراية المسرحية" 2017، عملت كمدرسة في المعهد العالي للفنون المسرحية، وعملت في المسرح القومي في دمشق كدراماتورج ومعدة ومؤلفة نصوص مسرحية وكمخرج مساعد، وفي السنوات الأخيرة بصفة مخرج مسرحي. سيناريست لعدد من الأفلام القصيرة والأعمال التلفزيونية السورية، إضافة لعملها كمستشار درامي في عدة أفلام سورية. تعمل في الترجمة من اللغتين الإنكليزية والروسية، إضافة إلى دراسات وأبحاث في المسرح أهمها "تاريخ الأزياء" و"الأصول التاريخية لنشأة المونودراما".

شاهد أيضاً

وللمُدُنِ مَذاقاتٌ مُختلفة كما فَاكِهة الجَنّات (3)

3 ـ الإسكندرية.. ويحدث أحياناً.. أن تقع في حُبّ مدينة. لم يكن حبّاً من النظرة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *