الرئيسية » مبراة » إرهاصات الخراب الأولى !

إرهاصات الخراب الأولى !

مما لا شك فيه أن تأثير المفكر والمثقف في مجتمعه، أو على الأقل في شريحة واسعة من شرائحه يكون من خلال نتاجه وفكره، وهذا النتاج الذي يتمثل غالباً بالكتب، لن يكون مؤثراً في مجتمعات لا تقرأ، ولا تندرج القراءة في قائمة اهتماماتها، لأسباب كثيرة لست بصدد الخوض فيها.

من خلال نتاجه الفكري، اكتسب المفكر والفيلسوف الراحل د. الطيب تيزيني مكانته، إلا أنها مكانة نخبوية بالضرورة، فما أنتجه التيزيني خلال حياته، وإن كان يناقش ويبحث في جذور بعض المشاكل والعلل في مجتمعاتنا، إلا أنه بقي بعيداً عن التأثير في العوام، لأن شرط التأثير المرتبط بالقراءة والفهم ومستوى الوعي، شبه معدوم لدى شريحة واسعة من أبناء هذه المجتمعات.

لذا لم يفاجئني تشييع المفكر الراحل، وعدد المشاركين فيه، بل أكثر من ذلك، اعتبر أن الحالة الطبيعية هي أن يخرج عشرات الأشخاص فقط في جنازة فيلسوف وأستاذ، يُعتبر أحد أبرز مفكري القرن، ففي مجتمع لا يقرأ، ستكون طوباوياً إن توقعت غير ذلك، حتى إن المقارنة بين تشييعه وتشييع الشيخ فتحي الصافي الذي رحل قبل أيام ليست منطقية، فالفرق كبير بين أفكار الرجلين وأدواتهما، كذلك بين جمهور كل منهما.

إلا أن ما جمع بين رحيلهما، هو انقسام السوريين، الذين باتوا منقسمين في كل شيء، ولا تجمعهم سوى بطاقاتهم الشخصية التي تحمل اسم بلدهم، فهم ينتظرون أي مناسبة للتعبير عن حدة ومدى هذا الانقسام، وكأنهم أعداء لبعضهم منذ مئات السنين، ولا يمكن لأحدهما أن يحيا دون إبادة الآخر، وهذا الانهيار والتمزق الاجتماعي يعكس مدى الأزمة الأخلاقية والنفسية التي وصلنا إليها، وبمطالعة بسيطة لوسائل “التنافر” الاجتماعي نجد أن “العيش المشترك” بات من الماضي، وأي عقد اجتماعي جديد لن يصلح ما أفسده الساسة والعسكر وشيوخ الفتنة الذين أغرقوا البلاد بالدماء. 

عادة ما تكون الملمات والشدائد التي تحيق بالناس فرصة للتصالح، والبحث عن نقاط التقاء ونبذ الخلافات والانقسامات، إلا في الحالة السورية، وربما في المجتمعات العربية عموماً، إذ أننا مع كل فقد جديد، وخسارة كبيرة، أو حتى مع أي عدوان خارجي على سورية، نجد تكريساً للانقسام، يستغله ويغذيه أصحاب الأجندات والمشاريع السياسية والمذهبية، ليكون إسفيناً آخر يُدق في هذا المجتمع المتهالك، وغالباً ما يترافق مع اساءات، وتبادل للاتهامات، والتخوين، وهذا ما ينذر بخراب أكبر، ما زلنا في إرهاصاته الأولى، والقادم أفظع، للأسف. 

إن لم يكن رحيل الطيب تيزيني، وقبله اغتيال الشيخ العلامة محمد سعيد رمضان البوطي، وإعدام عالم الآثار خالد الأسعد، والاعتداءات الخارجية  على سورية، قادرة على جمع ما تفرق خلال سنوات الحرب، لن يكون هناك نقاط التقاء تجمع السوريين، فكل طرف يراهن على إفناء الآخر، وهذا أمر مستحيل حتماً، مما يعني استمرار نزيف الدم، دون أن يتمكن أحد من إيقافه، فدموع الطيب تيزيني التي ذُرفت على سورية، لا تعني أحداً سواه، وقلة قليلة من محبيه، وكذلك دموع ودماء غيره، وما دام هناك من يدفع المال لن يتوقف السوريون عن التدافع نحو موتهم، والاستمرار في تدمير بلدهم.

في نهاية المطاف كل شخص رأى الطيب تيزيني من منظوره وحسب مستوى وعيه وموقفه السياسي، وبما يخدم هذا الموقف، ويعكس هذا الوعي، الذي تُرجم بُطرق عديدة طالعناها في وسائل الإعلام، فهناك من اختصره بتناوله كشخص معارض، وترديد أقوال له على هذا الأساس، وهذا ليس منصفاً له ولفكره، لكنه الجهل، عدونا الأول، وفي المقابل هناك من رأى فيه خائناً للبلاد التي حملها حياً وميتاً، وهذا قصر نظر واضح، وهذا مرده الجهل أيضاً، لأننا بأمس الحاجة إلى إبراز نقاط الالتقاء، وتقديمها على نقاط الاختلاف، إن كنا نرغب بالعيش معاً مجدداً، وإن بتُّ متأكداً من عدم رغبة كثير منا في ذلك، وربما استحالته.

مجلة قلم رصاص الثقافية

عن فراس م حسن

فراس م حسن
قـارئ، مستمع، مشاهد، وكـاتب في أوقـات الفراغ.

شاهد أيضاً

لا أريد أن أكون وقحاً !

كان أحد الأصدقاء يقول لي كلما التقينا وتحدثنا في الشأن العام قبل وبعد أن صار …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *