الرئيسية » رصاص ناعم » شخصية “اللابطل” في رواية الغائب لأنيس بن عمار

شخصية “اللابطل” في رواية الغائب لأنيس بن عمار

لولوة أبو رمضان | لم تكن هناك أسماء حدود وصلنا كما يجب أن يصل أي انسان الى أي منطقة في العالم باصرار على الرحيل، وتحد لكل خطوط الوهم .خطوط رسمها المنتصرون ندوب عار على وجه ارض كانت قبلهم نقية القلب صافية الملامح … تلذذت بذلك الوصول الذي حبكت انسجته ايادي القدر العابثة وارتميت في أحضان تلك العذراء لتفعل بجوعي وعطشي وأحلامي ما شاء لها ان تفعل, وفي حمى لقائي بها لم أنس أن أبصق في وجوه  كل شرطة الحدود وكل من زرعهم كأشجار الصبار في الصحاري القاحلة لاحلام الضعفاء. بصقت في وجوه كل هؤلاء لأنهم كالصوص يحرسون مالا يملكون…) ص30 

مقتطف صغير لقول أحد الشخصيات المحورية التي تتخاطب مع نفسها وتصوربكلماتها عمق المأساة التي يعيشها شعوب بأكملها في رواية الغائب للأديب أنيس بن عمار، فكما يرى  عباس محمود العقاد في مقاله  ( شعراء المهجر الجنوبي) : أن المهاجر الشرعي عامة هو انسان طليق لا يهاب المخاطر وهو من يدرك بفطرته أن ما يعيش فيه هو المخاطرة  لذا بتغرب ويترك بلده .

أما عن المهاجر اللاشرعي فهو من فقد وجوده وكيانه الانساني في بلاده  و في بلاد  الآخرين  ليسيطر عليه الخوف والنزعات الشريرة من كل حدب وصوب و يفكر بهجرة غير شرعية مرة ومرتين ولا يأبه فيها لأي موت أو حياة، هذا هو الوصف  الذي ينطبق على الشخصيتين التائهتين اللتين تتمحور عندهما رواية( الغائب ), رواية مخطط له من شاعر وروائي ولج الى النفوس المحبطة اجتماعيا والتي تتصارع مع رغباتها الوحشية, للتتغلب عليها تلك الرغبات.

الحدث في الرواية وزمانه

تسير أحداث ومجريات الرواية في أمكنة متتعددة تبدأ في مونتريال – كندا ثم تبدأ  الشخصية الأولى في الرواية  بسرد  قصة الشقاء التي كتبت عليه في قريته البعيدة مجهولة الاسم والعنوان ليهاجر منها وينتقل بعدها الى برشلونة وما حدث له من أحداث جسام ومن ثم يعود   الى مونتريال – كندا، رحلة حياتية تمتد أكثر من عشرين عاماً، يسردها السارد والشخصية الأولى في الرواية , يرويها من ألفها الى يائها  بسلاسة الضليع الذي دخل هو وكلماته الى عمق العمق في الشخصيات ,هو (أمير)  الانسان العربي الشقي والشخصية الأخرى المصاحبة له شقية أيضا ومنحلة في اخلاقها  ويدعى(أشرف) -وهو البعيد عن أي شرف يذكر- وجعلهما متشابهتين لكنهما مختلفتين الى حد طفيف، وان كانت شخصية كلاهما تكملان الآخر، كما سيظهر لقارئ  هذه الرواية هي رواية انسانية بحتة تعبر عن وحدة موضوعية، زمنها هو زمننا الحالي العصيب والتي تبحث  شخوصها المتباينة عن  بر الأمان ولا تجده وان وجدته ستناله بعد عصر في المخاض وأحداث دمار مدمرة لنفوس أصحابها أنفسهم والأشخاص المحيطين بهم على حد السواء. هو زمن في الذاكرة يستعيده الراوي  في الحدث السردي ويتفاعل بطريقة واعية ومجدية لسرد الأحداث عن كثب وهو ما يسمى بتقنية تيار الوعي في الرواية.

والأمر اليقين هو أن رواية الغائب هذه -كما هو الواضح- أحدثت اهتزازات شعورية مقصودة انتقلت من الكاتب الى القارئ , وبلورت عنده أحاسيس فعلية تتعاطف تارة وتشمئز تارة  أخرى فالتاثيرات البيئية من فقر واهمال وعنف أبوي ومجتمعي همش أفراده من الشباب العاطل عن العمل , ليبرز لنا شخصيتين منسلختين عن أية مبادىء أخلاقية أو قيم انسانية تذكر، فأمير يذكر في الصفحات الأولى للرواية (كنت أكره المدرسة … أمي تأكل الضرب في البيت وأنا آكله في المدرسة. هكذا تتواصل الحياة) ص15

نحن هنا أمام نص روائي أدبي بحت وليس وثيقة تاريخية أو اجتماعية لأشخاص هاجروا  بشكل لا شرعي، لذا التذوق الأدبي هنا أمرا حتميا لا مناص منه لما لدى النص من الخصائص الفعالة اللازمة  كلغة عربية فصحى متمكنة ومنتقاة بشفافية واضحة لا غبارعليها ,لغة تجرد شخصياتها من أية جنسية معينة لتجسد مأساتهم التي عاشوها ويعيشها كثيرون من أمثالهم الى هذه اللحظة . وشخصية أشرف فيها صفات معينة  لكن تتميز بقدرتها على اتخاذ القرارات، ظهر ذلك من خلال تحاوره المباشر والدائم مع الشخصية الأولى  بحيث يتم هذا التفاعل مع شخصية أمير وشخصية كلارا في تناسق و اظهارتفاصيل للأحداث كلها انسجام منطقي مع بعضها البعض فالعمق النفسي في صيغيته الجمالية التي أضفاها المؤلف على أمير وأشرف تظهرهما لنا كشخصية مدورة -أول من  استخدم هذا المصطلح كتاب( وجوه الرواية) للناقد الانجليزي فورستر-  شخصيتان تتحركان من فصل لآخر ومن حدث الى حدث تتأثر وتؤثر بما  يدور حولها، مما يجعل الأديب يرى زمن المستقبل في الماضي وزمن الحاضر في المستقبل وهي غاية الرواية الحديثة وخروجها عن الزمن التقليدي المتسلسل والمعهود .

شخصية اللابطل

شخصيتان ديناميكيتان , خص الروائي ابن عمار مهمة الراوي  السارد للأحداث  لشخصية رئيسة , شخصية (أمير) المميزة في الرواية, فأضفت على الأحداث عنصر الوضوح وعدم اللبس والأختلاط في الأدوار التي قد نجدها في روايات واقعية اخرى تحمل نفس الهدف و الهموم , لكن  الراوي في رواية الغائب الذي يتخذ ضميرالغائب (هو) يتنبأ ويستبق الأحداث في بعض الأحيان  فهو بعمله هذا ينتقص من فنية الرواية وهو أمر غيرمرغوب في اظهاره في الأدب الحديث للرواية الجديدة وكأنه انتقاص من عقل القارئ الذي عليه هو أن يستخلص كل ذلك بنفسه ( سنتصرف فيما بقي لنا من نقود بحرص شديد الى أن تجود السماء على أحدنا بشغل تحت الطاولة. وكان لي ما أردت. ) ص 40 .

في هذه الرواية الشخصيات تتصراع مع نفسها من أجل الحياة فيظهر لنا بالتالي وصفا لصراعها مع الآخرين بطريق متعددة,  كتخيل أمير لأحداث جنسية  كانت غير محترمة يرويها عن خالته الوهمية ليكسب صداقة شباب اسبان من عمره (أراد أن يتقاسم معهم يوم هروبهم من المدرسة كمراهق كشاب عادي , سأتخيل ان لي مدرسة وكتبا ودفاترلا حانة ولا قوارير ولا سكارى) ص 159( وجه هافيير لايزال مشدودها محدقا… أما انافقد ادركت ان مستنقع الكذب الذي استقيت  منه تفاصيل قصتي الوهمية قد اوشك ان ينضب) ص186 .شخصية نلمح فيها الاستغناء عن مبادئها وقيمها تسعى الى هجرة أولى مفعمة بالمخاطر فتنالها لتخطط لهجرة ثانية غير شرعية أيضا تلغي معها انسانيتها بشكل أكبر وأخطر, تسب أبيها في كل لحظة شؤم وتخبط و تسرق وتقتل وتكذب وتمارس الجنس لتحقق أهدافها بطريقة محتالة وهذا أيضا ما حدث مع أشرف  وكلارا صاحبة المنزل ليخاطب أمير نفسه ويحلل لنا شخصية أشرف صديقه الوحيد من منظوره الخاص فيقول:(أشرف ينقذنا من الضياع مرة اخرى وفي كل مرة تتزين الخطيئة باللون الشاحب للفقر بدأت بطعن الوالد في الظهر ثم مرت بالسرقة والنهب وهاهي الآن تتحول الى رذيلة مع امرأة في سن أمه) ص43 وتتواصل فعل الرذيلة مع كلارا الى آخر الرواية (… ولكنني قررت أن أنهمك في عملي المعتاد كان علي ككل  ليلة أن أصنع لها من جسدي قمما من النشوة حتى يعود اليها عقلها الغائب لمدة سويعات قليلة) ص 365

شخصيات فنية واقعية يرسمها الأديب دون اهتمام لانسانيتها فهي مجرد أشياء وتسمى نقديا بتشيؤ الأشياء: بأن تصبح في عرف الرواية الحديثة وفي الادب الفرنسي خاصة بأنها شخصيات مفعول بها وليست الفاعلة   وهو ما أراده لها القاص والمسرحي الالماني برتولت بريخت, الذي طالب بتسليط الضوء على ما يلامس  الواقع واستنطاق دواخل الشخصيات وتقديمها بصورة تجذب القارىء . فالشخصية الرئيسة في رواية الغائب ليست هي البطل الذي يحمل معه البطولة والفضائل كما كان يظهر في الروايات التقليدية فما نراه ونحس به في الرواية  وما نلحظه هو واقعيتها المؤلمة هو اكتشاف للعلل والمعلولات في مجتمعاتنا العربية الفقيرة وحتى المجتمعات الغربية التي تظهر معها كرهها واستعلاءها على المهاجر واستغلاله الى أقصى درجات الاستغلال اللآدمي وهو ما حدث لعيسى شخصية ثانوية كادحة هو طباخ صومالي يعمل في مطبخ البار ولكن  يعمل بالخفاء ودون اوراق لذا هو يعمل تحت الطاولة (لا حديث ولا تنفس تحمل ما يضعوه فوقك ولا تنطق) ص 85            

شخصية أخذت حيزا في الرواية, أحبت عملها البسيط لتتعلق بحب فتاة اسبانية بالصدفة البحته اسمها روزيتا (دون سابق تمهيد …وعندما تهب جيوش العشق على اراضي قلبك الجرداء كسرب من الطائرات دون صفارة   انذار…) ص 246 حب من طرف واحد لم يدم بسبب بوليس الهجرة الذي باغت الحانة فجأة بوشاية من زميله الاسباني( سانتو) وقبض على الشاب الصومالي الذي ظل صامتا ولم يقبض على أمير فقد ظنه الشرطي أنه خوانيتو مدير الحانة,فعيسى شخصية مسطحة لايراها القارىء بشكلها الكامل الا كما يريد لها المؤلف أن تُرى حتى تخدم أهداف الرواية وتنقذ الشخصية الرئيسة فيها وتخلق صراعا سلبيا في نفس أمير لتظهر فورا رغبة القتل لشرطي الهجرة   (سأغمد السكين في كتفه اليمنى سيتلوى ألما دون شك عند ذلك ستكون الفرصة سانحة وأطلق ساقي لظلمة الأزقةالملتوية) ص 298

لنرى أن جولدمان الناقد الفرنسي يحبذ هو ومدرسته الهيجلية التي تهتم بالضروة القصوى   لدى الأديب بنقل رؤية العالم عن طبقة معينة ويصغيها بطريقة كاشفة وجريئة تولد أفكارا في عقل القارىء وهو ما سنكتشفه عند قراءة متمعنة لرواية الغائب.

أهمية المكان

ولا ننسى أهمية المكان في رواية الغائب فهو ليس فقط  مساحة من فراغ تتحرك فيها الشخصيات وأنما هي شخصية حية لها جوها النفسي لتترك أثرها السلبي الواضح على كلا الشخصيتين الرئيسيتين و الممزقتين من الداخل والناقمتين على كل مكان جميل والى أن استقرت الأمور وهدأت عند أمير ليأتي الراوي والذي هو الأديب نفسه أنيس بن عمار ويروي حالة أمير البائس من كل شيء ,فقط في آخر فصل للرواية  (عشرون عاما منذ وصوله الى مونريال وهو يمارس نفس العادة التي أدمنها جميع سكانها: عشقها في الصيف ولعنها في الشتاء…) ص 411 

ومن الملاحظ أن المكان في برشلونه هو المحرك الأول والوحيد لوجود البعد الجنسي في هذه الرواية وظهوره أكثر من مرة وتوظيفه كنمط أدبي جمالي يُراعى فيه الشروط الفنية في اللغة بألا تكون مبتذلة ولا تثير الغرائز الفردية عند القارىء ويزيد من فهم القارىء لهذه الشخصية الجائعة للمال وللجنس معا ,  حتى تنال مأربها كشخصية أشرف بشكل خاص وهي شخصية مهمة في الرواية و هي التي كانت تمارس الجنس مع كلارا العجوزلتبقي على وجودها ووجود صديقها أمير في المنزل وفي العمل لاحقا ومن ثم الوعود الكاذبة لها بالزواج منها لتقيق مآرب أخرى ,فالجنس  أداة لحمايتهما وتدمير شخصية مريضة نفسيا مثل كلارا ليتحقيق حلمهما بالهجرة غير الشرعية الى كندا   ( قلت في نفسي اسبوعان وستقدم لهذين الجسدين الرخصين ورقة استقالتك للابد) ص358.

والكاتب الذكي هو من يجعل الجنس في روايته عنصرا يضيف للمتلقي فكرا آخرا وكما هوواضح هنا أنه طوق نجاة عند أحد الشخصيات الهامة في الرواية ومكملا لفهمها أكثر  وهوغوص متعمد من الأديب في النفس الانسانية المهزومة في مجتمعها والمجتمعات الغربية , لذا هو ليس نمطا تسويقيا للرواية أو فكرة مقحمة , فالرواية الحديثة الواقعية تتقبل ذلك عن طيب خاطر لأنها ليست منبرا للفضيلة وليست مكانا للدعوة الى الرذيلة والانسلاخ عن الأخلاق والقيم التقليدية  , لهذا وجب أخذ منحى الوسطية لا اسراف فيه ولا اسفاف وان كانت رواية الغائب قصة مأساوية تثير الرحمة والخوف من خلال شخوصها فتؤدي الى التطهير أو الطرد والابتعاد عن فعل الشيء كما عرف عند ارسطو  (Katharsis)وذكرها الدكتور بدوي طبانه في كتابه النقد الادبي عند اليونان  بلفظة , هي رواية تستحق  القراءة والتذوق الفني الصحيح .

كاتبة فلسطينية / خاص موقع قلم رصاص

 

 

عن قلم رصاص

قلم رصاص

شاهد أيضاً

رولا عبد الحميد تقول: إنها تجلس وحيدة في حضرة المحبوب

يقوم نص الرواية على حكاية حبَ بين حبيبين لا يلتقيان أبداَ، يدقَ قلبها، وتشعر بالاضطراب …