الرئيسية » رصاص خشن » “الزردة”.. رحلة في المفهوم وحفر في الطقس

“الزردة”.. رحلة في المفهوم وحفر في الطقس

عبد الرؤوف روافي  |

إن نحن اعتمدنا الفيلولوجيا مدخلا للبحث في ماهية الزرده و كيفية نشأتها و طقوس ممارستها فإننا نتفق مع أندريه مارتينيه أن اللغة هي طريقة خاصة في تنظيم العالم. وهو تعريف يساعدنا على معرفة أن بنية اللغة تعكس الطريقة التي يفكر بها أصحابها و الطريقة التي ينظرون بها إلى العالم. بالتالي يمكن لتحليل المفردة اللغوية أن يكون سبيلا لا لفهم المراد بها فقط أي مدلولها و معناها بل كذلك معرفة كيفية إطلالة أصحاب تلك المفردة اللغوية على العالم و كيفيةالاقامة فيه.
وبالنظر في عبارة زرده كمصطلح شائع في المنطوق اليومي لسكان الجمهورية التونسية نجد أنه يتوزع بين مجالين استعماليين أما الأول فهو اجتماعي بما أن الزرده تعني وليمة الطعام المجاني أما الثاني فهو عقائدي روحي بما أنها تعني مجموع الطقوس أفعالا وأحوالا وأقوالا يأتيها المريدون ويمارسونها عند ضريح ولي هو في المخيال الجمعي لديهم الجد الأول للعشيرة و “ربها “على الأرض.
و عندما تتبعنا هذه المفردة في قواميس اللغة لنفهم موقعها في اللسان العربي و نعرف بنيتها المفاهيمية وجدنا وشائج وصلات وثيقة بين مدلولها في الاستعمال اللغوي و مدلولها في الممارسة الواقعية.
جاء في كتاب العين للفراهيدي (باب زرد) زرد وازدرد الطعام بلعه بسرعة ونهم. وجاء في المعجم الوسيط الزرد حيوان مخطط من فصيلة الخيليات. وجاء في مجمع اللغة العربية بالقاهرة الزرده اسم لنزهة برية لا تنضبط بضابط ولا تراعي قانونا لا في نوم و لا في أكل ولا في شرب ولا في حديث….هي اجتماع بري يدوم يوما وليلة مبيتا في الخلاء وتحت سقف الخيام…..
هذه التعريفات على اختلاف مراجعها تجد في الزرده قاسما مشتركا أكبر لا في الوضع اللغوي بل في الممارسة الواقعية إذ هي عند القائمين بها وعليها اجتماع شعبي تقوم به مجموعة بشرية مخصوصة – لأن لكل مجموعة زردتها – في مكان مخصوص – هو ساحة الضريح – وفي زمن مخصوص-هو اليوم المتفق عليه بين المجموعة – ويدوم ليلة ويوما وفيه يقام الطقس الاحتفالي بعيدا عن ضوابط العمران والقانون والمدنية وتسود فيه المآكل والمشارب وربما تعقد فيه الصفقات والمصاهرات والمناكح وتقام فيه الاستعراضات كاللباس و الفروسية…..
ثم أخذت الزرده بفعل التعاود والتوارث تخرج عن كونها مجرد لقاء بين أفراد العشيرة الواحدة لتصبح أشبه بالاحتفال الممزوج بأنشطة اجتماعية واقتصادية وعقائدية خاصة وأن الحاضرين ينتمون إلى نفس الفصيل العشائري تجمعهم قرابة الدم والمصاهرة وخاصة اشتراكهم في الانتساب إلى الجد الأول الذي هو ممدود في الضريح والذي تقام في حضرته به وله كل الأنشطة والاحتفالات والطقوس.
الزرده بهذا المعنى ترجمة حية للعقل الخرافي الوهمي الذي واكب الفكر الإنساني منذ مدة طويلة ولا يزال يعشش فيه ويعيش معه جنا إلى جنب. ولعلنا نلاحظ في هذا السياق السرعة الفائقة التي انتشرت بها هذه الظاهرة ومدى تشبث أفراد بها إلى درجة التقديس والتبجيل. فأصبحت الزرده أشبه بالعبادة أو هي عند أهلها ركن من أركان الإيمان لكنه يبقى إيمانا شعبيا خرافيا لا يرقى إلى مصاف الإيمان العقلي. ومرد هذا الإيمان الخرافي في اعتقادنا هي تلك التقاليد والعادات التي تتأثر بها الأسر من حيث التفاعل المستمر والمتعاود مع الإرث الثقافي وينعكس في تنشئتها لأبنائها وترسخ فيهم نسقا فكريا وثقافيا يكسبه الزمن مشروعية ليعتبر فيما بعد مكونا أساسيا لا يتجزأ من البنية الشخصية و الذهنية للفرد.
فلا غرو-و الحال هذه-أن تصبح الزرده عند مقام الولي شكلا من أشكال التدين ويصبح الارتحال إلى ضريحه من كل فج عميق والنحر عند مقامه حجا لكن يختلف عن الحج في الإسلام لأنه في مستطاع كل مريد بل هو واجب والنكوص عليه خيانة والتغيب عليه ردة لا عن الدين بل عن التدين وعن العشيرة. الزرده بهذا المعنى تعكس نظرة المريدين للانسان وللعالم لأنها ترسم إطارا لعلاقة المزرد(الذي يقوم بالزرده)بالولي. والأولياء من بني الإنسان لكن يمتلكون – عند مريديهم- من الصفات والكرامات والمعجزات ما به يتسامون فيكفون عن كونهم مجرد بشر ويصبحون ميتابشر. لأنهم مقدسون على عكس التصور الإسلامي الصحيح الذي لا يعترف بمقامات الأولياء وأضرحتهم لأنه ينكر تقديس الأشخاص و يحرم عبادة البشر للبشر .لكن عند المريدين فالأولياء ليسوا بشرا بل هم حاملون للبركة ووسطاء شرعيون مع الله.
وهذه الظاهرة وأن كانت منتشرة في المغرب الإسلامي بكثرة إلا أن تونس من أكثر بلدانه احتضانا للأضرحة والمزارات حتى إنه لا تكاد تخلو مدينة أو قرية أو دشرة من ضريح أو ولي. يصح القول هنا: إذا كان المشرق الإسلامي أرض الأنبياء فالمغرب الإسلامي أرض الأولياء. ورغم ما تعرفه هذه البلاد اليوم من تفتح وتحديث في مناهج المعرفة وما تزخر به من جامعات و أكادميين ونخب وارتفاع منسوب العلم والنقد في الطبقات الوسطى وتحسن نسبة التمدرس ورغم هذا الغزو الهائل لآخر المستحدثات التقنية ووسائل التواصل العصرية إلا أننا لا نزال نلاحظ استقرار هذه الظاهرة بل واستمرارها بل ومزيد ترسخ الاعتقاد بقدرات الولي وكراماته في حياة مريديه. ومما يزيد العجب أن مريديه من بعض النخب التي ذكرنا.
وللزردة خارج وداخل. خارج هو المشترك( الكوني في اعتقاد مريديه) يقام في الخلاء يشارك فيه الجميع بلا ضوابط جنسية أو عمرية أو طبقية. شيوخ وعجائز وفتيان وفتيات وأطفال وفقراء وميسورون وعوام وخواص وحمقى وحكماء ومتعلمون ومتعالمون وأميون وجهلة وبرجوازيون وبروليتاريا……يمارسون أنشطة اجتماعية كالتزاور وإطعام الوفود والركض على الخيل….وأنشطة اقتصادية كالبيوعات والشراءات…تذكرني برد أبي سفيان على ابي الحكم(مكة حج و تجارة). أما الداخل فهو الخصوصي متمثلا في الدخول إلى خلوة مقام الولي (الحرم) لتصبح الزرده نشاطا عقدا روحيا يصدر عن اعتقاد خرافي مفاده أن للولي وجودا قويا وكأنه ما يزال حيا حاضرا أو هو في الواقع غائب بالفعل لكنه في اللاوعي المقدس حاضر بالقوة لذلك يمارسون في حضرته طقوسا متنوعة وأحيانا سرية عنوانها الرهبة الممزوجة بالطمأنينة ويتخللها الخشوع والتذلل ويغلب عليها الرجاء والطلب.
من هذه الطقوس نزع الحذاء عند الدخول إلى المقام الحرم رمزا للتقديس و نزع أدران الدنيا ( لكنه في بيته يدخل أحيانا كثيرة بحذاء الدنيا بل ويتمدد على الفراش به). ومنها الطواف حول الضريح ومناجاته ليساعده على قضاء حوائجه كالنجاح والزواج والإنجاب وتسهيل الأرزاق…. ومنها التمسح بالقماش الذي يغطي القبر وأحيانا تقبيله تبركا اعتقادا من المريد أن ملامسة أشياء الولي تتجاوز مجرد اللمس الجسدي لتصبح اتصالا روحيا بينهما أشبه بالحلول عند المتصوفة (وهو الذي لم يقبّل ابنه أو ابنته منذ انجبهما..). ومنها من يقطع قليلا من ذاك القماش ليجعله تميمة تصد عنه المكاره و النوازل..و منها من يدفع ما تيسر من المال أو الحلي مساهمة في إعمار الحرم ولو دفع ذلك المال لزوجته أو أولاده لقضاء حوائجهم لكان أجدى وانفع….ومنها…..ومنها….
هي ممارسات وطقوس لها في اعتقادنا دلالة بسيكوسوسيولوجية. فهي طقوس هجاسية (والهجاس نوع من الوسواس المرضي تلعب الظروف الإجتماعية والثقافية دورا كبيرا في الإصابة به. وهو مرض نفسي ينشأ بسبب صراعات لاشعورية) وليست طقوسا دينية لأنها تعبير رمزي عن رغبات ومشاكل نفسية ومرضية. وقد وصفها فرويد في المشابهة البنيوية بين الطقس الهجاسي والطقس الديني عندما قال: (تبدو هذه الطقوس المتصفة فعلا بأنها محض سيكولوجية أو نفسية مرضية. فهي لا تشكل جوهرا و لا طبيعة روحية). معنى ذلك أنها ليست طقوسا دينية مقدسة صادرة عن تعاليم وعقائد دين ما بل هي عبارة عن شعور انفعالي نحو تفريغ التوترات الوجدانية وتصعيدها لغاية الخروج من الضيق والحصار النفسيين.
خلاصة القول إن الزردة في الأفعال و الأحوال و الأقوال هي عند المريدين نشاط عقدي بامتياز لا يمكن تجاوزه أو نسيانه أو التخلي عن ممارسته لأنه نشاط به ينحتون كيانهم ومنه يطلون على ذواتهم وعلى الإنسان وعلى العالم..الزردة في اعتقادهم شكل من أشكال الإقامة في الوجود…هي نشاط قدسي بل هي شكل من أشكال تجلي المقدس وزيارة وليهم كأنها فعل إحياء له فيتجلى لهم روحا مطلقا في التاريخ. لا قبل له ولا بعد له. هو الأول والآخر/ المنفذ والمساعد…وهلم جرا من أسماءه الحسنى. حتى أنك على سبيل النكات تطلب من مريد أن يقسم بالله على صحة ما يقول فيقسم وهو كاذب لكنك حين تطلب منه أن يقسم بالولي فإنه يرتجف ويحمّر ولا يقسم …إن هذا لعجب 

ونحن وإن كنا قد طرحنا هذه الظاهرة وحاولنا قراءتها – دون أن ندعي الإلمام بها – فإن مرادنا ليس التنيه إلى سلوك الناس وأفعالهم أو التشهير بها وإنما قصدنا أن تفشي هذه الظاهرة وغيرها لا يمنعنا من السكوت عن دراستها لما فيها من وثنية وخرافة يعتبران عائقا أمام جهود التحديث التي راهن عليها جامعيون ونخب علمية لأنها ببساطة ظواهر تلعب دورا كبيرا في إعاقة العقل على التفكير وإنتاج المعرفة وتكرس الجهل والتخلف خاصة ونحن نروم اللحاق بالحداثة وما بعد الحداثة.

تونس | مجلة قلم رصاص الثقافية

عن قلم رصاص

قلم رصاص

شاهد أيضاً

وحشية

١ ثمة ملاك، أو هذا ما نظنه لأنه يرتدي لباساً أبيض، ينشر حوله هالة نورانية، …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *