جسدي ينتفضُ برقّة، الشوارع خاليةٌ، الأضواء تتراقصُ وتزداد رشاقةً إلى أن تضمحلّ، أعلمُ جيداً أن لا أحد سيهبّ لنجدتي إلا بعد فوات الأوانِ ربما، هدوءٌ جليديٌّ يقطرُ منه الموتُ لم يكسره إلا ذلك الصوتُ…وحده فقط ينفخُ في روحي -التي ستصعدُ قريباً على الأغلب- شيئاً من الطمأنينة.
سبع سنواتٍ مضت منذ آخر مرة سمعتُه فيها، عذباً وحيّاً كما هو الآن لكنني لم أستمتع في ذلك الوقت بتجلّيه في روحي لأنني كنتُ ببساطة أحاولُ إثباتَ وجوده في الأصل؛ لقد كنتُ الوحيدةَ التي شهدت سحرَ تلك الألحان.
أبٌ، أمّ، أخٌ، أختان، أنا، ستة أشخاص وثلاثُ حقائب كبيرة وكمان.
لا أدري كيف اجتمعَ ذلك كلّه في سيارةٍ صغيرة تبذل أقصى جهدها تحت قرص الشمسِ الملتهبِ، ضحكنا كثيراً في بداية طريق السفر؛ حشرُ الحقائب وحشرنا معاً داخل قوقعةِ السلحفاة تلك شكّلا أحد تلك المواقفِ التي تستجرّ الضحكَ العفويَّ دون سيطرةٍ، دون توقفٍ، دون علمٍ بسببه حتى.
“الضحكُ بلا سبب قلّة أدب”، هذا ما تفوّه به أبي متعجّباً من ضحكنا الهستيريّ، لم يكن هستيرياً ولكن ليس بالنسبة إلى من تتحفّزُ خلايا دماغه وفصوصه بمجرّد أن يلمس المقود.
“الله يعطينا خير هالضحكة”.
هذا ما قالتهُ أختي الصغيرة التي اعتدنا مناداتَها بـ”الجدة ريتا”، لأنها لم ترث من جدتنا “ريتا” اسمَها فحسب وإنما تطيّرَها أيضاً ومعتقداتِها وتخوّفها من أبسط الأمورِ.
إجازة الصيفِ، الصيفِ الجميل، الصيف الذي لا يعني إلا العبورَ السنويّ لهذا الطريقِ، الصيف بإجازتهِ المدرسيّة والجغرافيّة حتى، ولكن لا…ليس هذه المرة.
تنتهي شهور المدرسةِ التسعة ثم يأتي المخاضُ بكل حماسهِ واندفاعهِ من خلال رحلة السفر هذه، فنودّعَ المدينةَ التي انتقلنا إليها منذ أن كنا في المدرسة الابتدائيةِ حيث مقرّ عمل والدي الجديد، لنعودَ إلى مدينتنا في كل صيفٍ قبل أن نودّعها هي الأخرى في نهايته، روتينٌ سنويّ لا نملّ تفاصيلَه، لا نملّ طقوسَه، لا نشعر بأنه روتين حتى،
ولكن لا… ليس بعد هذه المرة.
كان طقساً مألوفاً بالتفاصيلِ نفسها: ستة أشخاصٍ وثلاث حقائب كبيرة وكمان، تقودهم سيارةٌ كقوقعةِ السلحفاةِ، فلمَ إذن كلّ ذلك الضحك في تلك المرّة التي لا تشبه غيرها من المرّاتِ؟!
لم أعلم بدايةً، فربما كان حشرُ أحجامنا التي تزدادُ ضخامةً سنة بعد سنة في سيارةٍ متوقّفةٍ عن النمو أمراً مضحكاً، ولكن ما حدث بعد ساعةٍ جعلنا جميعاً نعلم السبب الحقيقيّ.
الخمسةُ أشخاصٍ علموا شيئاً، وأنا علمتُ شيئاً آخر.
الخمسةُ أشخاص سمعوا السيارةَ، وأنا سمعتُ الكمان.
الخمسة أشخاص خافوا من أن يكون أنينُ السيارة المضحك يُنبئ بمكروه قد أصابها، وأنا خفتُ من أن يتفقد أبي الأمر ويعالجُه فيوقفَ تدفّقَ تلك الألحان العذبةِ.
لقد تفقّد أبي الأمر ولكنه لم يعلم مكمَن الخلل في المحرّك حتى يعالجه.
يا له من لحنٍ حزينٍ! حزين جداً، لا أدري لمَ لا يسمعه أحد غيري، مشهدٌ سرياليّ بحقّ: أنا مفتونةٌ بصوت الكمان وسابحةٌ في فضاء من الحزنِ، وسأسبح في فضاء آخر من الدموع التي ذرفها قلبي قبل عيني، كلُّ هذا الشجن تقابله قهقهات إخوتي، حتى إن كانوا يضحكون على صوتِ السيارةِ التي تبدو وكأنها تئنّ من ثقلِ ما تحمل فإن الأمرَ لا يُضحكُ إلى هذه الدرجةِ.
“هادي…إنه كمانك”.
لم يسمعني، لم يلتفِت إليّ أساساً فقد كان مشغولاً بالإشارة إلى رِدفَي “جنى” العملاقين على حدّ تعبيره وهو يكادُ أن يغرقَ في ظهر المقعدِ لشدة استغراقهِ في ضحكه ذاك، سيسخرُ بالتأكيد مني إن قلتُ له إن السيارةَ لا تُصدرُ أيّ صوتٍ، وإنها قادرةٌ -كما في كل سنة- على استيعاب أحجامنا مهما كبرنا، سينقلُ حتماً سبّابةَ السخريةِ تلك من ردفَي “جنى” إلى عُظيماتِ سمعي.
وصلنا بسلامةٍ، أمضينا عطلةً صيفيةً حافلةً، ولم أتطرق لذكرِ موضوع الصوتِ الغريب ذاك، كان موضوعاً غريباً بالفعلِ لأن والدي تأكدَ بعد يومين من أن السيارة بخيرٍ ولا تعاني من أي عطلٍ أو خللٍ، إذن…هل كنتُ أتوهم؟ أم أنّ هذا يُثبتُ أنه صوتُ الكمان حقاً وليس صوت السيارةِ؟ ولماذا أسمعه ذاته الآن وأنا أتلوّى ألماً على الأرضِ؟! لم أسمع لحناً بروعتِه، لم يخفق قلبي لجمالٍ يضاهيه من قبل، لم أبكِ بسبب موسيقا في حياتي.
نسيتُ أمره طوال السنوات السبعِ التي أعقبَت آخر رحلةِ سفر، نعم…تلك الرحلةُ كانت الأخيرةَ؛ لم نعد عند حلول الخريفِ كما كانت تقتضي العادة، لقد طالت الحربُ تلك المدينةَ النائية الوادعة بمختلفِ أنواع الفصائلِ والكتائب والجيوشِ وحتى الدول المجاورة، سنوات سبع تتالى على المدينةِ كلُّ ما ذكرتهُ لم نستطع خلالها أن نزور المدينة مجرد زيارةٍ لنرى ما حلّ بالمنزل وأثاثهِ.
لقد فقدتُ أجمل الذكرياتِ، أجمل الصور، ألعابي، ثيابي، أشغالي اليدوية الطفولية، ذاكرةٌ عمرها خمسة عشر عاماً تبخّرت وكأنها لم تكن يوماً، لكنها لم تقم طوال السنوات التي أعقبَتها إلا بتمكين نفسها في ذاكرتي أكثر.
ذاكرة مفقودة تمتّن وجودَها في ذاكرتي الحالية، يا لها من طريقةِ عذابٍ عذبة!
في العام السابع على رحلة السفرِ الأخيرة تلك، غرقت المدينةُ “الصيفيةُ” في صمتها، كنتُ أعلمُ هذا قبل خروجي للمشي هذا المساء وتأمين بعض المستلزمات الضرورية.
الحجرُ يلوح في الأفقِ، وباءٌ عالميّ مستشرٍ وأذرعه تتسلل رويداً رويداً إلى المدينة، لذا خلت شوارعها إلا من بعضِ المارةِ الذين حالهم كحالي؛ حال الملل والضرورة الماديةِ التي تدفعهم للخروجِ.
صمتٌ مهيب لكنه مغرٍ في آن معاً، لدرجة لم أتمالك فيها نفسي من نزع سماعات الهاتف المحمول كي أسمع صمتَ المدينة وبضع مزقٍ من أصوات متناثرةٍ هنا وهناك لحديث مارّ أو موسيقا سيارة ما.
خرجتُ من البقاليةِ ووضعتُ بقية النقود في جيبي، هناك شيء ما مفقودٌ؛ سماعات الهاتف التي وضعتُها في الجيب نفسه، تفقّدتُ الجيب الآخر من السترة، لا يوجد شيءٌ، تفقدتُ الجيبين الخلفيين والجانبيين لسروالي، لا شيء أيضاً، لم أنتبه إلى أنني كنتُ أعبر الشارع وأنا أقوم بعملية البحث تلك، عقلي مبرمَج على الفراغ الطارئ الذي فرضه الوباء على المدينة وحشودها وسياراتِها فمن أين انبثقَت هذه السيارة اللعينة؟! يبدو أنها تسألُ السؤالَ نفسه، هي مبرمَجة على خلوّ الشارع من المارّة فمن أين انبثقتُ أنا؟!
جسدي ينتفضُ برقّة، الشوارع خاليةٌ، الأضواء تتراقصُ وتزداد رشاقةً إلى أن تضمحلّ، أعلمُ جيداً أن لا أحد سيهبّ لنجدتي إلا بعد فوات الأوانِ ربما، هدوءٌ جليديٌّ يقطرُ منه الموتُ لم يكسره إلا ذلك الصوتُ…وحده فقط ينفخُ في روحي -التي ستصعدُ قريباً على الأغلب- شيئاً من الطمأنينة، اللحنُ نفسه، الحزنُ نفسه، الجمال المبكي ذاته، لن أتحرك، لن أصرخ، لن أبكي، سأستمعُ بهدوءٍ إليه، طمأنينةٌ أخرى تسربت بكلّ حنان؛ إنها المدينة التي سرقت مني سماعاتِ الهاتفِ على غفلة كي تشاركني هذه اللحظاتِ الأخيرة ربما قبل أن أمضي وحيدةً عن هذا العالم، لم أمنع نفسي من الابتسام وأنا أشعر بدفء هذه الفكرة وبالامتنانِ لوجود مدينة بأكملها تحتضنُ جسدي وتشاركني بطفوليّة محبّبة الاستماعَ إلى اللحن، وكأنها سرقتِ السماعاتِ لتُثبتَ لي أنه موجودٌ حقاً، وأنني لم أكن أتوهم في ذلك اليوم، وأنها تستمعُ إليه الآن وتشعر بتحسنٍ كبير وسرور ونبضٍ يقاوم سعال الوباء الجافّ.
أغمضتُ عيني بسلامٍ في الوقت الذي كانت فيه تقفزُ إلى ذهني آخر صورة: صورة “هادي” الذي فوجئ يومها بعد أن وصلنا من حال أوتار كمانه المرتخيةِ، وكأن أحداً ظل يعزف ويعزف لساعاتٍ، أنا واثقة من أن استغرابَه اليوم سيتكرر، سيتكرر لا محالة.