الرئيسية » رصاص خشن » “تاريخ العيون المطفأة”..نبيل سليمان يسعى لتقديم الرواية الكاملة

“تاريخ العيون المطفأة”..نبيل سليمان يسعى لتقديم الرواية الكاملة

تعيش شخصيات رواية نبيل سليمان “تاريخ العيون المطفأة” في منطقة متخيلة، وضعها الكاتب في المنطقة العربية، وزاد عليها بأن الله حباها من نعمه وأنعمت عليها الطبيعة بكنوزها، فنهرها الصغير يفيض عنها إلى ما جاورها من البلاد، وبحرها الذي ليس مثله أي بحر، بكائناته وغازه ونفطه، والغابات تملأ أرض البلاد، بالإضافة إلى هضاب ووديان وسواق وعروق ذهب وماس ومياه معدنية تشفي من العلل إلا علّة البصر.

هذه البلاد سمّوها: (بر شمس، وكمبا، وقمورين)، وقد ابتليت بالداء تلو الداء، منها ما كان يتسلل عليها من البحار أو من السماء، ومنها ما كانت المقابر تطلقه، ومنها ما كان يتفجر من دخائل البشر، وقد بلغ الأمر بها أن خاضت الحروب مع بعضها حتى باتت من أكبر دمامل العالم، ومن أكبر سخرياته.

ودعك الآن من التخييل والفانتازيا، ولنتجه إلى الواقع بكلّ تفصيلاته، فقد نبغ من هذه البلدان نابغون ونابغات وإن كان أغلبهم قد هاجر إلى مختلف أصقاع العالم، فقد أطبقت السلطات على صدور الناس وعلى بطونهم فالأمر لا يتعلق بهذا الذي يسمّى “حرية وكرامة” وحسب، بل بلغ حدّ اللقمة وحدّ الرقبة.

الشيخ حميد يصاب بالعمى، وهو إحدى شخصيات الرواية، وكان قد حارب في فلسطين، وكذلك فخر النساء، هي أيضاً أصيبت بالداء ذاته ورحلت بعد تسعين يوماً من العمى المفاجئ الذي لم يحدّد له طبيب سبباً، هذان الاثنان انجبا ولداً هو مولود الذي قرّر أن يهاجر للدراسة إلى بر شمس، وذلك عندما أصبح شاباً، وتغادر مليكة قمورين، أو تهرب منها وتدرس الرياضيات، وقد كانت تحمل إجازة في الفلسفة، وكذلك مولود.

استدعي مولود في السنتين الأخيرتين مراراً إلى مراكز أمنية شتى، كانت البداية في مراكز الأمن الخارجي، ويُسأل عن أولئك الذين له علاقة بهم، والذين ليس له علاقة، ماذا يفعلون وما هي علاقته بهم… إلخ من هذه الأسئلة، ثم إلى المركز رقم 119، وهناك يلقى الأهوال في التعذيب ثم الاعتذار من، ونحن آسفون على هذا اللقاء.

تنهض الرواية بالحبّ والحرب، وأعمال القتل والإرهاب، كما تنهض بالموسيقا والفن، يصيغها الكاتب بعين الخبير الذي يعرف أين ستصل به الأمور، وهذه المتعة في السرد نكتشفها حين نعلم أنّها رواية كلّ الأنظمة.

“لا تقل إنّك لا تعرف ما جرى سنة 1948 / في فلسطين يا ابني والله انهزمنا، بلا مكابرة، انهزمنا واستشهد خالي ورجعت مع من رجع ورؤوسنا منكوسة”.  هذا في الحرب مع إسرائيل، أما داخل هذه البلاد فـ “أماني راحت تطرق أبواب الصحف ووكالات الأنباء وبيوت المراسلين تستجدي نشر خبر عن المحامي الأستاذ شعيب محمّد الذي توفي معتقلاً، وتطلب أسرته تسليم جثمانه ليتم دفنه كما يليق بمن أخلص للقانون والوطن… ولكن ما من مستجيب”.

“ومليكة اقتيدت بتهذيب فائق إلى مكتب رئيسة اتحاد الطلبة المجاور لمكتب رئيس الأمن الجامعي، وتركت وحيدة ما يكفي، ثم لتدخل عليها الرفيقة حورية رمضان، وتسألها إذن كنت في المظاهرة أمام وزارة الداخلية… وتصل إلى قناعة، بماذا تختلف رئيسة اتحاد الطلبة عن أي بلطجي”.

“الوظيفة في بر شمس كما هي في كمبا وفي قمورين لا بدّ لها من الموافقة الأمنية، وهذه كانت مستحيلة…

تحدثت الفضائيات عن اختفاء سدير ورفيقيه ـ وأن من اختطفه هو المركز الذي يديره الكولونيل”.

“لا تنسى أنك في قمورين، لست في كمبا حيث استبدلوا السجون بالمصحات النفسية ولست في بر شمس والمركز الأمني للوباء وللنساء، أنت في قمورين… نحن أيضاً ليس عندنا سجون ولا مساجين، كلّ ما عندنا هو مكاتب صغيرة وبجانب كلّ مكتب حفرة صغيرة… وقمورين تحكمها رئيسة، لذلك كانت المظاهرات التي تخرج تردّد: قمورين حرّة… حرّة… والرئيسة تطلع برّه… أو هذا النداء … يا رئيسة حلّي عنا… قمورين من بعدك جنة، وشوهدت سيارات الإطفاء تفرغ حمولتها من المياه على المتظاهرين، وظهرت سيارات شرطة لمكافحة الشغب وهم يشهرون تروسهم وعصيهم الكهربائية، ومنهم من أشهروا الجنازير، وتشتبك الشرطة بالشبان أمام الفرع، وازدادت عمليات التخريب”.

الرواية تدور في اليونان وباريس ومنطقة الشرق الأوسط، فيها تجار أسلحة، وإرهابيون ملتحون، الذين تفننوا في ممارسة القتل والذبح، وفيها أناس لا حول لهم ولا قوّة، أرادوا وطناً يخلو من هذه الأعمال ويبحثون عن كرامتهم التي تداس بالأحذية، يبحثون عن وطن يعيشون فيه بسلام وحرية، لا توجد فيه أدوات القتل والتعذيب، لماذا… لأنني أخالفك الرأي، فأوضع بالسجن سنين حتى أصفى جسياً. 

ويورد الكاتب ما يخص تاريخ العمى، فيبدأ بالمعرى وطه حسين، عن جورج ويلز وصراع العمياء لعزيز نيسين، وعن رواية ساراماغو “العمى” الذي جعل اعتقال العقل هو العمى، والعمى كثير، إنه نظام التعليم… من رياض الأطفال فصاعداً، والفضائيات والإذاعات، والإعلام في بر شمس، بل في العالم كلّه، والقضاء، واقتصاد الشفط واللهط… والمراكز الأمنية، ووباء الفساد، وهؤلاء الذين نصبوا أنفسهم ناطقين باسم الله من أي دين كانوا… والبصر هو الشبان الذين خرجوا في تلك المظاهرات ونظموها وقادوها، البصر هو الحرية والعلم والمعرفة والموسيقا، وينهي الكاتب روايته على هذا الشكل: “غامت عيناه أمام الشاشة، ورأى نفسه كأنه يتربع على عرش مذهب، غير أنّ ذهب العرش أخذ يتحلل إلى عيون مقلوعة، وتجاويف عيون فارغة، ففتح عينيه ممتعضاً ليجد العيون والتجاويف تملأ الشاشة، فأغلقها، وإذا بسواد الشاشة يملأ عينيه، فزلزلت المكتب ضجة، والرعب يأكله، عميت يا معاوية؟”.

“إنّه العماء الذي يصفع المحبين والساسة والقتلة والموسيقيين، عماء يمور، فيه فن وموسيقا وفلسفة، عماء بصير، وبصير معمّى”، كما يقول سعيد بنكراد.

إنّ رواية “تاريخ العيون المطفأة” تعكس بناءً معمارياً غنياً ومتنوع الأساليب وهو ديناميكي في انتقالاته الكثيرة، ويتميز الراوي بحرية واسعة ومرونة كبيرة، فهو يتنقل من مكان إلى آخر، ويربط بين الأزمنة بفهم ودراية، ويحرك الشخصيات الكثيرة… والرواية تتمتع بلغة صافية وجميلة لا تخلو من الشعر في كثير من أجزائها، واستطاع نبيل سليمان – عبر حرفية عالية – أن يوظفه توظيفاً مثالياً… فانتقل من أنماط السرد المختلفة، كما تحرك بسلاسة وتلاقح بين الأساليب والشخوص لتؤدي عملها في البناء المعماري للرواية، من أسلوب سردي إلى آخر بشكل تتناغم فيه حركة وإيقاع الأفكار مع الأحداث مع أنماط السرد.

إنها تمتاز بالحبكة المتماسكة والتسلسل المنطقي للأحداث والوقائع، فبناء الأحداث يتم على قدر عال من الحرفية والمهارة، ويتم تفجير إمكانياتها واستغلال أساليبها إلى أقصى مدى، والبناء السردي في قمة الإحكام والسبك والتماسك والتنوع، وآليات وتقنيات السرد توظف إلى أقصى طاقاتها… إننا إزاء عمل يمكن أن نطلق عليه الرواية الكاملة، فهي تجمع في بنائها الشكلي ومحتواها الموضوعي بين تقليدية التميمة وحداثة القوالب وأساليب السرد، التي كانت حاضرة بتنوع مقتنياتها وآلياتها، كما يقول كاربت كريفش.

نبيل سليمان: كاتب سوري، وُلِدَ عام 1945 في مدينة صافيتا، تخرج في جامعة دمشق عام 1967 ، وعمل في التدريس، ثم أسس دار الحوار للنشر عام 1982، وهو عضو اتحاد الكتاب العرب، جمعية القصة والرواية، له كثير من الروايات والكتب النقدية، أهمها: الأدب والايديولوجيا ـ جرماتي ـ النقد الأدبي ـ الرواية السورية ـ حجر السرائر ـ مدائن الأرجوان ـ جداريات الشام.  وتعرض الكاتب للاعتداء عليه مرتين، مما أدّى إلى إسعافه إلى المستشفى، وقد منعت عدد من رواياته من التداول.

رواية “تاريخ العيون المطفأة” صدرت عن دار ميم للنشر في الجزائر، ولاية تيبازة عام 2019، وتقع في 352 صفحة فن القطع المتوسط.

مجلة قلم رصاص الثقافية

عن فيصل خرتش

فيصل خرتش
فيصل خرتش روائي سوري مُقيم في حلب، حائز على جائزة نجيب محفوظ للرواية عام 1994. صدرت له تسع روايات: موجز تاريخ الباشا الصغير (1990) والتي مُنعت من التداول في سوريا، تراب الغرباء (1994)، أوراق الليل والياسمين (1994)، خان الزيتون (1995)، مقهى المجانين (1995)، حمّام النسوان (2000)، مقهى القصر (2004)، شمس الأصيل (2008)، ودوّار الموت بين حلب والرقة (2017)، إضافةً إلى عدد من المجموعات القصصية، منها: الأخبار (1986)، وشجرة النساء (2002). وله مسلسلان تلفزيونيان، وفيلم سينمائي عن روايته (تراب الغرباء) من إخراج سمير ذكرى وحاز على جائزة أفضل فيلم سينمائي في مهرجان القاهرة عام (2000) وهو عن المفكِّر عبدالرحمن الكواكبي. كما فاز فيصل خرتش، بجائزة الطيب صالح (المركز الأول) عن روايته (أهل الهوى) عام 2018.

شاهد أيضاً

وحشية

١ ثمة ملاك، أو هذا ما نظنه لأنه يرتدي لباساً أبيض، ينشر حوله هالة نورانية، …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *