نعيم شوشان |
إذا كانت وظيفة الأدب السعي وراء خلق أسئلة ومحاولة الإجابة عنها، وممارسة الولوج إلى عوالم الوجع الإنسانيّ في عصر المؤلّف؛ أي أنّها بحث دائم عن المعنى، فإنّ نصر سامي جاوز الخوض في تجربة البحث عن جوهر الموضوعات إلى التجريب في نقل هذه الأسئلة والإجابة عنها. فهو في رحلة ثورة على الواقع الأدبي بدأها بالشكل سعيا إلى رسم طريقٍ جديد في العدول و التجاوز.
لذا كتب نصّا ينهل من حياض الفنون والأجناس المجاورة له، استئناساً بتقنياتها واستدعاءً لها ليكون نصّه كيمياءً من شتّى الفنون والأجناس.
ولا نستغرب المزج بين الفنون والأجناس في نصّ واحد إذا اطّلعنا على سيرة الكاتب الإبداعيّة، فهو مبدع متعدّد المشارب، متشعّب المواهب، حطّم أكثر مميزات عصره فنأى و أشاح بقلمه عن الإغراق في الاختصاص ليفيد من كثير من الفنون والأجناس الأدبيّة؛ فهو الشاعر والقاصّ، والرسّام التشكيليّ والروائيّ، وصاحب محاولات في التلحين، والكاتب المسرحيّ والمتجاسر على كتابة السيناريو السينمائيّ.
كلّها مواهب لاحظنا محاولة رواية “العطار” الاستفادة منها لذا حاولنا رصد تجليات بعضها في النص الروائيّ، وارتكز مجال بحثنا على السينما وحضور تقنياته وعلى تتبع حضور بعض الأجناس الأدبيّة فيه وخاصّة السيرة الذاتيّة والقصّ والشعر.
الرواية والسينما
الدّارج أن تحوّل الرّواية إلى فلم سينمائي، أي أنَّ “السينما تستعين بالرواية”[1]. وهو ما يؤشّر على اشتراك الجنسين الفنّيين في مجموعة من الخصائص..، وقد استوعبت الرواية بدورها التقنيات السينمائية، مما ضاعف من جماليات تشكلها جنسا أدبيا، وزوّدها “بقيم جمالية ضاعفت من طاقته[ـا]على المغامرة، ودفعته[ـا] إلى ارتياد سبل فنيّة أكثر انفتاحا وديناميّة واتساعا، جعلته[ـا] على صعيد صراع الأمكنة النصيّة يبتكر صيغا مكانيّة مستحدثة اقتربت كثيرا من حرارة السينما على النحو الذي يتفلمن فيه المكان وبقية عناصر التشكل الأخرى في النص الأدبي”[2]. وهو ما يضاعف من أهميّة الوصف ويخدم الدلالة النصيّة.
والمتأمل جيّدا في المشهد الرّوائي العربي المعاصر يَلْحظ تسلّل الأسلوب السّينمائي إلى الرّواية “عبر مجموعة من القنوات بنسب متفاوتة لدى الكتّاب”[3]، فالرّواية استعارت تقنيات المونتاج السينمائيّ، بما هو تصوير اللقطات ثمّ إعادة تركيبها بما يلائم تصوير المخرج لمجريات الحكاية، وجعلتها إحدى مكوّناتها، وبذلك استغنت عن الأزمنة النّحوية التي كانت تحكمها واستعاضت عنها بعملية تقطيع الحكاية والزّمان والمكان.
تجليات المونتاج السينمائي في الرواية
اللقطة:
هي “نقطة الارتكاز التي يقوم عليها المونتاج السينمائي، وتكون غاية في الدّقة خلال تصوير المشهد ولا سيما في مجال السرعة والمسافة والتصوير”[4]، وتقسم اللّقطة إلى لقطات فمنها الشّاملة، والبعيدة والبعيدة جدّا، والمتوسّطة والقريبة والقريبة جدّا، ومنها السّريعة والمتوسّطة، والثّابتة والبطيئة والبطيئة جدّا.
ونصر سامي في رواية “العطار” يوظّف الصّورة البصريّة في خدمة الصّورة السرديّة منذ افتتاح النصّ، فيبدأ برصد الشّخصية البطلة ومكان فعلها السرديّ على الطريقة السّينمائيّة، أي بلقطة شاملة تحيط بالمكان في صورته العامة، وفيه تكون عين الكاميرا في الأعلى وتنزل تدريجيا لتقتحم العوالم الخاصة.
بدأ المشهد بقوله “بيته معلّق في عمارة للمغتربين”[5] وهي لقطة شاملة خاطفة للمكان دون تفصيل، ولكن في حركة تشبه حركة الزّوم في الكاميرا، يضيّق السارد من مجال اللّقطة تدريجيا ليصل إلى الشارع الذي يقضي فيه البطل وقتا من يومه، فهو “يقضي نصف يومه في إحدى المكتبات التي تنبت كالفطر في قعر بناية قديمة، تحيط بها بيوتات بسقوف من اللّوح والقصدير، متاجر فقيرة وخيّاطين وحلاّقين، ومحلات غسل ثياب، وبائعي سمك مجفّف”[6]، ليمرّ إلى لقطة أكثر انغلاقا داخل المكتبة فتقع الصّورة على البطل بين الكتب وهو يتأمل ما حدث لحياته، وينغلق المشهد بلقطة قريبة جدّا وسريعة مبأّرة على “أورميلا” وهي “تستدير مظهرة عجيزتها المستديرة”[7].
التقطيع:
تبدأ عملية المونتاج بقطع اللّقطات لاختيار الأفضل بينها، فلفظ “التقطيع” يعني تقسيم المشهد إلى لقطات[8]، والفيلم السّينمائي عبارة عن عدد من المشاهد المقسّمة إلى لقطات، وكذلك الرّواية الحديثة تتعرض إلى تقسيم داخلي يُشبه الفيلم، فكثيرا ما نجد الرّوائيين يقسّمون رواياتهم إلى فصول معنونة متصلة مباشرة بالعنوان الرئيسي للرّواية، والرّابط المعنوي يتجاوز العنوان ليمتد إلى الموضوعات، وتقسم الفصول إلى مشاهد مقطّعة إلى لقطات.
وللزمن الرّوائيّ أيضا تقطيعات عدّة “وبالتالي قد نجد في المقطع الواحد من الرواية أزمنة مختلفة ومتشظية”[9]، لذا رصد الدَّارسون للزّمان أزمنة متعدّدة، فيتحدثون عن زمن القصّة وزمن القراءة، وهي أزمنة متشظية ومتشتتة يمكن رصدها من خلال تقنيات التّحكم في الزّمن مثل الحذف والوقف والمشهد والاسترجاع والاستباق والتلخيص..
أما الاسترجاع فهو كل ارتداد إلى الوراء أو ذكر لاحق وقد قسّمه جيرار جينات إلى استرجاع داخلي واسترجاع خارجي[10]، وهو بنوعيه يعبّر عن توقّف الأحداث لتسترجع بعضها من الماضي. ورواية “العطار” استرجاع لأحداث مضت، فالسرد الآنيّ يتعطّل منذ نهاية القسم الأوّل المعنون بــ “مقدّمات أو نهايات، لا فرق بينها” الذي يتوافق فيه زمن السرد وزمن الحكاية؛ فمنذ أن طعن العطار مرشد “بسكينه بقسوة في قلبه مباشرة حتى خرج السكين من ظهره”[11] وصَفَّى جميع أعماله وترك ميراثا لزوجته ورسالة لأورميلا وغاب، انقطع الحاضر وحلّ الاسترجاع، استرجاع لماضي العطار العفن المليء بالشهوة والمغامرة والقتل والترحال والبحث عن الذات وعن معنى للحياة..
والاسترجاع، الوسيلة الأساسيّة في تشتيت الزمن، يعتبر سمة أساسيّة في رواية نصر سامي؛ ففي قسم الرحلة وفي فصل “الحياة هي في كلّ مكان آخر” يبدأ الحكي بنهاية الرحلة “جمال الدين العطار، مثل جدّه، في موضوع النساء. تزوّج إلى حدّ اليوم عددا كبيرا منهنّ”[12] فالظرف “الآن” يؤشّر على زمن الحكي الحاضر ويتأكّد ذلك بحديثه عن زوجته الأخيرة “هدى” ليعود بعدها إلى أزمنة سابقة وكأنّ الذّاكرة تتداعى أمامه فتتلاحق الحكايات السابقة انطلاقا من حكاية طليقته الأولى “شيماء” وصولا إلى نقطة البداية سنة 2017.
فالرواية استرجاعيّة بامتياز، ذاكرة علّقت في ذهن السارد، وهذه الاسترجاعات تحضر في الأفلام السينمائيّة التي تتداخل فيها الأزمنة حدّ التشظي، في عملية قتل صريح لوتيرة الزمن، ولكن رغم ذلك حافظت الرواية على دلالة السرد وتفاصيل الحكي.
والتلخيص أو المجمل: وهو حركة سردية تختزل وقائع سنوات في جملة أو جملتين، ومن خصائصه تغيير مساحته النصيّة؛ فالنصوص المجملة تختلف سعتها باختلاف توظيف السارد لها وباعتبار المادة التخيليّة، والتلخيص يساعد على تسريع وتيرة السرد؛ ففي قول البطل جمال الدين العطّار “عشت هناك ما يقارب السنتين، تزوجت النهى، وأنجبت لي ولدا واحدا، واشتغلت قوّادا للجميع، حتى زوجتي أعلمتهم بما تقوله، فصار ما صار”[13] إجمال مدّة سنتين في جملتين دون تفصيل أقوال ولا أفعال؛ بل ذكر فقط للتغيير الحاصل في المكان والحدث.
ويتأكّد الإجمال في نهاية القسم الأوّل حين تتسارع الأحداث جنوحا للنهاية يقول: “خلال سنتين تزوّجت أختي مرشد الوحيدتين غير الشقيقتين: الكبرى والصغرى معا، معهما أورميلا. وخلال بعض الأشهر، طعنته بسكينه بقسوة في قلبه مباشرة حتى خرج السكين من ظهره ثمّ أخرجه”[14]، فسرد الحكاية يؤشر أنّ السارد قد لخّص مدّة زمنيّة طويلة في بعض الأسطر وأسقط التفاصيل.
والأمثلة على هذه الظاهرة كثيرة يعلن تواترها في المتن الحكائي عن تشكل مختلف في بنية الخطاب كما ساهم في تسريع السرد في المواطن التي تفرض على السارد التسريع.
أما الحذف Ellipse أو الإضمار فهو “موجز مؤدّ إلى حذف بعض الأحداث”[15] أي التخلي عن السرد المسهب بالقفز على الأحداث دون تفصيل القول فيها، وفي الحذف يبلغ السرد سرعته القصوى فيساوي زمن الخطاب الصفر وزمن الحكاية السرد، أي أنّ زمن الخطاب أكبر من زمن الحكاية. وهذا الإسقاط لفترات زمنيّة سابقة قد تكون تلميحا أو تصريحا. ومن الأمثلة في رواية “العطار” قول السارد “بعد يومين، العجوز قالت له…”[16]، فعبارة “بعد يومين” حذفت فيها فترة زمنية استغنى السارد على سرد تفاصيلها في المتن الحكائيّ ويقابل هذه التقنية الروائيّة تقنية سينمائيّة تتمثل في الإشارات الدّالة على مرور الزّمن فنجد؛ فيشير المخرج إلى حذف الزمن السينمائيّ بعبارات مثل “بعد يوم” أو “بعد شهر”… وقد يشير إليها ضمنا كأن يحوّل الطفل شابّا في لحظات أو أن يُظهر الشيب على الشّخصية بعد أن كانت فتية…
الوقفة: إن كان نصّ نصر سامي نصَّ الحكاية بامتياز تتداعى فيه الأحداث وتتوالد فإنّ حركة السرد قد تتعطّل في مساحات عدّة من النصّ كما يقف الزمن السرديّ ليترك المجال للوصف “فالوصف لا ينهض إلاّ على أنقاض السرد الذي يستقبله”[17]. والسارد يعمد إلى الوصف ليعرض من خلاله خلجات النفس مدقّقا في الأشياء كاشفا لخواص الموصوف، فيعطّل الزمن موهما بتوقفه.
والوصف في النصّ إمّا مباشرا يقوم عليه السارد دون وسيط مثل وصف “يسرى” في فصل “حكاية يسرى المجنونة وحافتها الأخيرة” يقول “كانت يسرى متاهة من الشكّ، ومعبدا من الخيلاء، ودنّا من الخطايا، وحقلا مزروعا بأسديّة الضوء، وبابا مؤدّيا إلى جهنّم، وسلّة طافحة بالأكاذيب، وسمّا يشبه العسل…”[18] وقد يكون سردا على لسان إحدى الشخصيات مثل وصف يسرى لمشهد إطلالة أمّها من الشرفة في حديثها إلى مبروكة حين تقول “كان إطلال والدتي من الشرفة في تلك الصبيحة الباردة فاتنا، وأشجار الزّان البيضاء المجلّلة ببقايا ثلوج الظّهيرة تستلذّ لمسات النسيم وتفتح أعطافها لمياه النّهار. والطّير كان يفتّح أحضانه للشّمس في لحظات شروقها، ويركن إلى صرير عربتها بجيادها الأربعة في طريقها خلال السّماوات. لم تكن فتحة النافذة كبيرة ولكنّ صدرها الملفوف من أسفله بصديريّة بيضاء كان يدعك البلّور ويهتزّ اهتزازات خفيضة لتعكير صفاء الهبات التي جلبها لي قبل الزّواج”[19].
إن لم تحضر في الرواية مقاطع وصفيّة طويلة يموت معها السرد فإنّنا لا نعدم أهميّة هذه الحركة السرديّة المستقاة منى عين الكاميرا الواصفة المدقّقة في الأشياء والأمكنة والشخصيات، فالوقف ليس إلا فرملة لحركة السرد من أجل تزويد القارئ بتفاصيل الحدث لتكتمل الصورة في ذهنه مثلما يفعل المصوّر السينمائيّ الساعي إلى تبئير الموصوفات لإيصال المعنى للمشاهد.
يسند السارد في المشهد الكلمة للشّخصيات لتتحاور فيما بينها في عمليّة تعطيل صارخ للسرد، والمشهد في رواية العطار نادر الحضور، منها ذلك الحوار الذي دار بين “جمال الدين العطار” و”الحاج الصغير” حول المرأة الملفوفة بحزام بنيّ كبير[20]، وهو مشهد يحفل بأفعال القول ورغم ذلك فإنّه يُعلن عن تطابق زمن الحكي وزمن الخطاب.
التركيب:
هو المرحلة الأخيرة من مراحل المونتاج، فبعد تصوير اللّقطة وتقطيعها وفق التقنيات التي ذكرنا، تتم عملية التّركيب وفق الرؤية العامة للمخرج، وكذا الأمر في النصّ الروائيّ، حيث يتحكم السّارد في نسق النصّ السرديّ عبر تقنيات الجمع والحذف والتقديم والتأخير للمشاهد، فيخرج النصّ وفق رؤية جماليّة ودلالة فنيّة.
ونص “العطاّر” خرج في حلّة فنيّة مغايرة للسائد من النصوص الرّوائيّة، فقد وزّع الكاتب المشاهد وجزّء اللّقطات عبر أقسام الرواية وفصولها. وللقارئ أن يكشف ذلك من خلال ترتيب المشاهد.
كما أنّ البنية الخارجيّة لنص “نصر سامي” توحي باستثمار تقنية الكتابة السينمائية في الرواية، فالكاتب رتّب روايته على شكل أقسام وفصول وهي خمسة أقسام مختلفة الحجم مثل المشهد في السينما الذي “قد يطول وقد يقصر”[21] وكلّ قسم عدا الأول والأخير مقسّم إلى فصول معنونة وكأنّها لقطات سينمائيّة أعاد السارد ترتيبها لتشكل الرواية.
تجليات عين الكاميرا في الرواية
ترصد الأحداث في السينما عن طريق حركة الكاميرا، وفي الرواية يضطلع السارد بهذا الدور يرصد الأحداث ويتتبّعها من جميع جوانبها دون تدخّل منه، فهو المحايد إمّا يسرد أو يصف من زوايا مختلفة ليترك للقارئ حريّة التأمل وفكّ الرموز، كقوله “يذهب أحيانا كثيرة مع هدى وبعض أولاده إلى المزرعة، يجلس في إحدى العليّات المزروعة بجمال في ذلك المكان، يجمع حوله أطفاله الصغار، ويحدّثهم. النساء من بعيد يعملن، والرجال أيضا. وهدى مع زوجاته الصغيرات مثيلاتها، كنّ يوفرن للجميع ما يحتاجونه من أكل وشراب”[22]، وهو يتتبع العطار وأولاده ونسائه عبر مجموعة من اللّقطات المتتالية بداية من الذهاب إلى المزرعة وصولا إلى تجمّع زوجاته في خدمة العمّال مرورا بالجلوس مع أبنائه في إحدى العليات والحديث معهم وعمل النساء والرجال.
وكان الكاتب يتحكّم في الكاميرا عبر حركة الزوم فنلاحظ أنّ انتاج الصورة السرديّة تشبه حركة الكاميرا إلى الخلف والأمام وهي حركة تتمّ بواسطة عدسة الزوم في السينما “وهي عدسة تسمح بتعدد البعد البؤري بسرعة أثناء التصوير دون توقف أو قطع”[23]، وتعدّد الشخصيات الروائيّة في مشهد قصير دليل على سينمائيّة الصورة الروائيّة، فعين الكاميرا تستطيع التقاط مختلفة الحركة والشخصيات في مدّة زمنيّة قصيرة.
فعين الكاميرا في هذا المشهد أخرجت لنا صور مجزأة على كامل مساحة المشهد، تحركت فيها الشخصيات في حركة متناغمة مع حركة الكاميرا في الفضاء الذي تلتقطه، وهو فضاء الصورة السينمائيّة المسرودة. وهو ما يجبر القارئ على تخيّل الصور واللّقطات وكأنّه يشاهد شريطا سينمائيّا لا يقرأ رواية مكتوبة.
كذا وظّف نصر سامي التقنيات السينمائيّة في الكتابة الروائيّة، فرواية “العطار” تقترب من حيث الأحداث إلى فلم سينمائيّ. فالمقاطع الروائيّة قد تشكلت على أساس لقطات أجاد الكاتب ترتيبها ليصوغ مشاهد سينمائيّة؛ فتقنية المونتاج التي اعتمدها الكاتب يجعل بنية الرواية أقرب إلى السينما. كما وظّفت الرواية تقنية عين الكاميرا وخاصة عدسة الزوم التي تجعل السارد ناقلا للأحداث والمشاهدات فيقترب من المشهد العام ثمّ يبتعد، فهو واقف في مكانه ثابت مثل الكاميرا. وكذلك تكثيف الحركة داخل النصّ الروائيّ يشي بتداخل التخوم بينه وبين النصّ السينمائيّ.
تشكل الصورة عند نصر سامي عنصرا مهمّا لذا اختار الصورة السينمائيّة كداعم لأفكاره السرديّة، فالصورة هي أداة التدخل بين الرواية والسينما. ورواية “العطار” خرجت عن السائد لتؤلّف بين الفنّ الأدبيّ والفنّ البصريّ.
تداخل الأجناس الأدبية في رواية “العطار”
السيرة الذاتيّة:
قارئ “العطار” يدرك منذ القراءة الأولى أنّ نصر سامي قد هدّم الحدود بين بين جنسي الرواية والسيرة الذاتيّة، فقد أخذ من الرواية الجنس المعلن منذ عتبة العنوان حريّة البناء الحدثي والتحكّم في الزمان والمكان؛ أي استمدّ منها عنصر التخييل. أما من السيرة الذاتيّة فقد وظّف المرجع وحاول الإيهام بالواقع. لتتقاطع في النصّ ذات المؤلّف بذات البطل في تفاصيل كثيرة. فتصير بمثابة قصّة ارتجاعيّة يروي فيها المؤلّف قصّة وجوده الخاص ولكنّه لا يؤكّد على حياته الفرديّة ولا على تاريخ شخصيته.
رواية “العطار” جنس من السرد “يجمع أهمّ أحداث شخصيّة إنسانيّة”[24] أو هي تأريخ لحياة نصر سامي في قالب روائيّ تخييلي، فقد استنجد الكاتب بقالب الرواية للتمويه في رحلة البوح والكشف عن الذات. فالرواية كُتبت ببعض مقومات السيرة الذاتية فهي “من حيث شكل اللّغة حكي سرديّ، ومن حيث الموضوع حياة فرديّة، وتاريخ شخصيّة معيّنة”[25]. ويتطابق السارد والشخصيّة الرئيسيّة في أجزاء كبيرة من الرواية، فقد اعتمد الكاتب ضمير المتكلّم في السرد، والتزم بأسماء شخصيات واقعيّة، وأكّد على الأماكن المرجعيّة، لذا يمكن الجزم أنّها حكي استعاديّ، أو جنس من السرد حطّم الحدود بين جنسي السيرة الذاتيّة والرواية ولكنّه حافظ على تناسق في الكتابة وعلى توازن يصعب معه التفطن أنّ الدمج كان بين جنسين مختلفين.
تتماهى الذات الكاتبة مع الذات البطلة في نقاط عديدة، فنصر سامي وجمال الدين العطار أحدهما مرآة للآخر؛ هما الكاتبان العاشقان للرحيل المرتدان نفس الأماكن، فبداية الرواية تؤشر على مكان واقعي يشترك فيه صاحب المقام الواقعيّ (الكاتب) وصاحب المقام التخيلي (السارد/ البطل)، فالمؤشرات النصيّة تعلن أنّه مكان في أحد مدن الخليج العربي، بما أنّ البطل سكن في “عمارة للمغتربين”[26]، ويتعرّف على شخصيات أجنبيّة أسماؤها هنديّة أو بنغاليّة مثل “أورميلا” و”بريانكا” وأسماء عربيّة مثل “مرشد الراعي” والمؤلف يعيش في مدينة عمانيّة ساحليّة “صلالة” فيها يرتاد مكتبة في رحلة بحثه عن ذاته، ونصر سامي صديق المكتبات يرتادها يوميا و”مكتبة الغساني” فضاءه المحبذ في مدينة غربته.
المدن المشتركة في حياة البطلين عديدة، إذ نجد مدينة سوسة وتونس العاصمة وجربة فضاءات أُثّثت بحضور البطلين، ولكن لا يُعرف عن الكاتب ارتياده فضاءات جنوب الصحراء الكبرى التي شهدت رحلة العطار..
وتداخل التخوم بين الروائيّ والسير الذاتيّ نرصده من خلال الحضور الصارخ لأبطال روايات المؤلّف في متن رواية “العطار” على أنّها من إبداع جمال الدين العطار؛ فتحضر “مريم” بطلة رواية “الآيات الأخرى”[27] و”شهرزاد” البنت المسحورة بطلة رواية “حكايات جابر الراعي”[28] و”سليمة الطويهري” بطلة رواية “مالك الشاطر”[29] و “مالك الشاطر” ذاته…
فالتزام الكاتب بذكر الأماكن الواقعيّة والتاريخيّة بذكر تواريخ وأماكن محدّدة يعدّ من خصائص السيرة الذاتية، فقد حطّم القيود وأزال الحدود وجمع بين عناصر الكتابة الروائيّة وخصائص السيرة الذاتيّة في تناسق تام يُشكل على القارئ الولوج إلى هذا التداخل.
وما يُعمّق الاعتقاد بضرورة إعادة تجنيس الرواية ذلك الحضور الصارخ لشخص المؤلف بضمير المتكلّم في آخر فصول نصّه المعنون بـ “حزمة ضياء في القراءة”[30] حضور متعال عن الروائيّة وخصوصياتها، فهو يزجّ بنا في المقام الواقعيّ دون تمهيد يقول: “الآن وقد اكتملت الرواية أتساءل، أنا الكاتب نصر سامي، وأنا راوية، هل هذه الرواية رواية حقّا؟”[31]، فالسؤال يزعزع مسلمات القارئ الذي اختار الكتاب من رفوف المكتبات على أنه رواية، ليدخل في فرضيات التجنيس المتعدّدة، ولعلّ أقربها جنس السيرة الذاتيّة، خاصة وأن المؤلف نفسه لا ينفي حضور “عناصر سيريّة”[32] في الكتاب واعترف أنّ “بعض الفصول نُقلت من الذاكرة نقلا”[33] كما أكّد أنّه تحدّث في الكتاب عن “آلات المتعة، عن المرأة، عن الجسد، عن اللحم الخارج من اللّحم، عن اللذائذ الأولى، عن حكايات أثّرت في حياتي، عن صور لم يمحها الزمن، عن مذكرات ورسائل، عن حروف، عن أشياء أخرى كثيرة كانت لسنوات تشكل المعنى الحقيقيّ لحياتي”[34].
فنصّ “العطّار” يقيم في مواطن الحيرة والغموض والتوتر، تجسّد في هذا المدّ بين الرواية والسيرة الذاتيّة غيّر البيّن. فالنصّ يأخذ من السيرة الذاتيّة بحظ عظيم إغناء لجنس الرواية، وخروجا عن بوتقة القوالب الصارمة للجنس، فيحدث ما يسمّى بالتفاعل بين جنسين قريبين يسهم في إنجاب جنس طريف ينوس بين ذينك الجنسين ونعني “رواية سيرة ذاتيّة”
الشعر:
تتصادى الأجناس وتتنادى في رواية العطار في تناغم يخرج النص فسيفسائيا، ويسند للقارئ مهمة تصنيفها لحظة القراءة، فقد تناثرت في النص تقنيات القصة وعوالمها واشتملت عوالم الشعر وآلياته. فالرواية النصرية يتعايش فيها مختلف الأجناس وهو ما يؤشر على دحض نظرية برونتير القائمة على ولادة الأجناس وفنائها[35]. الجنس الأدبي لا يقضي على سابقه بل يخرق الحدود لتتفاعل فيما بينها والعطار من في طينة هذه النصوص المتجاوزة لذاتها الأجناسية المتقاربة من الأجناس المجاورة مثل الشعر الذي يوقّع بصريّا على مساحات هامة من النصّ الروائي، وهي قصائد نصريّة بامتياز أخذت جلّها من كتاباته الشعرية، ومن الأمثلة على ذلك ما جاء على لساني “سلاف الزيدي” قولها:
“فدنياي هذي على حسنها
وسحر مفاتنها والصّور
تشاركني سائر الكائنات
لذاذاتها ونساء البشر”[36]
وفي موضوع اخر ترد “بهيجه العفلي” علي العطار الذي لم يكن يظهر مشاعره بكلمات تقول فيها:
“ما أروع الكلمات.
أعطتني ولم تأخذ.
دفأت قلبي ونامت في طريق العابرين.
هبّت على شجري.
أراقت فوق أغصاني الثّمار
وعتّقت عنبي،
وجددّت الحنين الى ديار لم أكن أبدا بها.
كأنّي كنت أحلم كلّ هذا العمر.
كأنّي كنت أخترق السّنين”[37]
أو هي قصائد مقتبسة لشعراء مثل ما ذكر من شعر “المرقش الأصغر” في تلك المحاورة الشعرية بين الجمال الدين العطار ولبنى حين تقابلا بعد سنوات من الفراق، في أمسية شعرية في جزيرة جربة التونسية، كان محكّما فيها. حيث خرجت له من بين الجمهور وقبلته واندست في صدره قائلة:
“سَقاهُ حَبِيُّ المُزْنِ في مُتَهلِّلٍ
فأكملت البيت:
منَ الشَّمسِ رَوَّاهُ رَباباً سَوَاجِمَا
فواصلت:
أَرَتْكَ بِذَاتِ الضَّالِ منها مَعاصِمَا وخَدًّا أَسِيلاً كالوَذِيلَةِ ناعِما
فقلت:
صحَا قَلْبُهُ عنها عَلَى أَنَّ ذِكْرَةً إِذَا خَطَرَتْ دارتْ به الأَرضُ قائِمَا”[38]
كما يحضر الشعري في النص عبر الطاقة الإيحائية أو التخييلية وعبر اللغة النثرية الشعرية التي تنأى بنا عن اللغة العادية الواصفة للأشياء والاحداث من ذلك قول البطل: “ولمحت على أطرافها رعشه الخوف، وهي تنكمش مثل نجمه أكل اللّيل أضواءها، وأنّ أيقونات كبيرة تتساقط على العتبات العالية التّي نبت العشب على أطرافها. وسمعت صوت الأرواح المخبّأة في بطون الأيقونات..”[39]
القصة:
حظ القصة القصيرة في النص لا يقل عن حظ الشعر، فالكتاب لا يسرد حكاية جمال الدين العطار وحده بل يجمع قصصا عن شخصيات عرفها البطل وعايشها، وأبلغ مثال على ذلك قسم “نساء في حياه العطار قبل الرحيل” فيه في حضور بين لعوالم القصة القصيرة فكل حكاية من حكايات هذا القسم تصلح ان تكون قصه قصيره مستقله بذاتها مشتمله على كل الوجوه الجمالية التقنية لهذا الجنس من تكثيف للسرد وتنام سريع للأحداث ووحده الزمن والموضوع ومحدودية عدد الشخصيات.
كما انفتح النصّ الروائيّ النصري على الموروث المرويّ العربيّ بما أنّه قد وظّف الأسلوب الحكائيّ ومتعلّقاته كوجود راوٍ وجمهور ومَحكيّ مُستقطِبٍ ومُلِحّ، في خطابه: “يا سادة، يا مادَة، يدلّنا ويدلّكم على طريق الشّهادَة. سأحكي لكم، فيما يلي، حكاية جمال الدّين العطّار، الصّباح هنا مبلول خائر جاثم على القلوب، والأهل والولد بعيدون عنه، بينه وبينهم زمن. لم يرَهُم منذ أنْ تركَ كلَّ شيء، ورَحَل”[40] فالعطار يبدوا متأثرا بالموروث الحكائيّ متشبعا بالثقافة الشفوية.
إن التعالق الأجناسي في كتابات نصر السامي يعود الى تركيبه ذات المؤلف غير المستقرة الذات التي امتطت صهوة كل الاجناس منفردة فأبدعت فيها نصوص رائعة ولكنها ذات غير مستقرة تهوى المغامرة وجدت في القالب الروائي الاسفنجي حيزا يحقق نزعات الذات في التجريب القائم على امتزاج الأجناس فعاينا آثار الشعر والقصة القصيرة والسيرة الذاتية وإن توغلنا أكثر لوجدنا آثارا للنص المسرحي وجنس الرسالة واليوميات والمذكرات.. فالعارف بسيرة نصر سامي الأدبية يتوقع أن يكون نصّه مهرجان أجناس.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] پرويني خليل، دلشاد شهرام: آليات السينما في رواية “قناديل ملك الجليل” لإبراهيم نصر الله، مجلة إضاءات نقدية في الادبين العربي والفارسي،س5، ع17، مارس 2015، ص12.
[2] محمد صابر عبيد: سيمياء التشكيل الروائي الجمالي والثقافي في نظم الصوغ السردي، دار الفضاءات، عمان، ط 1، سنة 2016، ص 217.
[3] صلاح فضل: أساليب السرد في الرواية العربية، دار سعاد الصباح، الكويت، ط 1، سنة 1992، ص189.
[4] سهام حشايشي: تشظي السرد وتداخل الخطابات في الرواية المغاربيّة، مجلة الخطاب، المجلد 13، عدد 2، ص 150.
[5] نصر سامي: العطار، الآن ناشرون وموزعون، عمّان/ الأردن، الطبعة الأولى، سنة 2019، ص 13.
[6] نصر سامي: العطار، ص 13.
[7] نصر سامي: العطار، ص 13-14.
[8] أدريان برونل: سيناريو الفيلم السينمائي “تقنية الكتابة للسينما”، ترجمة وتحقيق: مصطفي محرم، رؤية للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، سنة 2017، ص 59.
[9] سهام حشايشي: تشظي السرد وتداخل الخطابات في الرواية المغاربيّة، ص 152.
[10] جيرار جنيت: خطاب الحكاية بحث في المنهج، ترجمة وتحقيق: محمد معتصم وآخرون، المجلس الاعلى للثقافة، المشروع القومي للترجمة، القاهرة/ مصر، الطبعة الثانية، سنة 1997، ص 60-61.
[11] نصر سامي: العطار، ص 24.
[12] نصر سامي: العطار، ص 185.
[13] نصر سامي: العطار، ص 222.
[14] نصر سامي: العطار، ص 24.
[15] Joelle Gardes Tamine Marie Claude Hubert : Dictionnaire De La Critique Litteraire، Ed. Cérès. Decembre 1958. P99.
[16] نصر سامي: العطار، ص 187.
[17] Jean Ricardou : Problèmes du nouveau roman، Ed : Seuil، Paris، 1990، P24.
[18] نصر سامي: العطار، ص 27.
[19] نصر سامي: العطار، ص 35.
[20] نصر سامي: العطار، ص 197.
[21] علي العتر: أساسيات كتابة السيناريو، سلسلة كتب دراسات سينمائيّة، ط1، سنة 2015، ص 63.
[22] نصر سامي: العطار، ص 236.
[23] پرويني خليل ودلشاد شهرام: آليات السينما في رواية “قناديل ملك الجليل” لإبراهيم نصر الله، ص 24.
[24] عزيزة مردين، القصة والرواية، ديوان المطبوعات الجامعية، ط1، سنة 1980، ص 10.
[25] جليلة طريطر: مقومات السيرة الذاتية في الأدب العربي الحديث (بحث في المرجعيات)، مركز النشر الجامعي، مؤسسة سعيدان للنشر، تونس، سنة 2004، ص 13.
[26] نصر سامي: العطار، ص 13.
[27] نصر سامي: العطار، ص 156.
[28] نصر سامي: العطار، ص 156.
[29] نصر سامي: العطار، ص 153.
[30] نصر سامي: العطار، ص 243.
[31] نصر سامي: العطار، ص 243.
[32] نصر سامي: العطار، ص 244.
[33] نصر سامي: العطار، ص 244.
[34] نصر سامي: العطار، ص 244.
[35] محمود طرشونة: مدخل الى الادب المقارن و تطبيقه على الف ليلة و ليلة، المطابع الموحدة، تونس، الطبعة الأولى، سنة 1986، ص 107.
[36] نصر سامي: العطار، ص 58.
[37] نصر سامي: العطار، ص 80.
[38] نصر سامي: العطار، ص 100.
[39] نصر سامي: العطار، ص 81.
[40] نصر سامي: العطار، ص ..