الرئيسية » رصاص ميت » تاريخ سردي لرباعيات الخيام..د. عبد الله إبراهيم

تاريخ سردي لرباعيات الخيام..د. عبد الله إبراهيم

بدأت رواية “سمرقند” لـ”أمين معلوف” بالجملة الآتية المعبّرة عن غرق رباعيات الخيّام: “في أعماق المحيط الأطلسيّ كتاب، وقصّته هي التي سأرويها”. ذلك ما تفوّه به بنجامين لوساج، آخر مَنْ آل إليه أمر مخطوط الرباعيات. نسخة فريدة فقدت بغرق الباخرة “تيتانك” ليلة 14 إبريل/ نيسان1912 في عرض المحيط قبالة الأراضي الأميركيّة. أبدى مالك المخطوط حزنًا، وتأسّى لفقدان ذلك الأثر النفيس “مذّاك زاد تسربُل العالم بالدم والظلّ يومًا إثر يوم، وأصبحت الحياة لا تبتسم لي قطّ. وكان عليّ أن أبتعد عن الناس كيلا أصغي إلى غير صوت الذكرى، ولكي أداعب أملاً ساذجًا، رؤيا ملحّة: غدًا سيُعثر عليه. وإذا كان صندوقه المصنوع من الذهب يحميه، فسوف يبرز من الظلمات البحرّيّة، وقد اغتنى قَدَرُه بمغامرة جديدة، ولسوف تستطيع بعض الأصابع ملامسته وفتحه والإيغال فيه؛ وتتابع عيون مأسورة من هامش إلى هامش وقائع مغامرته، فتكشف الشاعرَ وأبياته الأولى وسكراته الأولى ومخاوفه الأولى وفرقة “الحشّاشين”. ثم تتوقّف غير مصدَّقة أمام رسم بلون الرمل والزُمُرّد”. هذا مدخل شائق لرواية كتبت عن مخطوط شعري نفيس.
لم يحمل المخطوط الغريق تاريخًا، ولم يوقّع عليه الشاعر، وتألّف من مجموع من الأوراق الصينيّة البيضاء بملمس الحرير، عددها أكثر من مائتين وخمسين ورقة متغضّنة يلفّها جلد خشن، ومدعم من جوانبه بشكل يشبه ذيل الطاوس، صنعه ورّاق يهوديّ بناء على طلب قاضي قضاة سمرقند أبي طاهر. لا توجد في المجموع الورقيّ قصائد، ولا رسوم، ولا تعليقات، ولا زخارف، بل صفحات خالية تنتظر منْ يكتب عليها. أهداه لعمر الخيام القاضي أبو طاهر، حينما جيء به مكبّلاً من طرف الجماعات الدينيّة المتشدّدة بتهمة الزندقة، كونه مشتغلاً بالكيمياء، وبدل أن يعاقبه القاضي صرف الغلاة عنه، وأبقاه وحيدًا معه، ثم قال له “احتفظ بهذا الكتاب. وفي كلّ مرّة يتشكّل فيها بيت من الشعر في خاطرك، ويقارب شفتيك ساعيًا للخروج، فاكبِتْه بلا تحفّظ، واكتبه في هذه الأوراق التي ستبقى طيّ الكتمان”. لم يكن كتابًا، إذ لم يخطّ عليه شيء بعدُ ليكتسب هُويّته، ولكن ما أن أصبح بحوزة الخيّام حتى بدأ يتشكّل بوصفه كتابًا، فكلّ رباعيّة دوّنت على أوراقه المتغضّنة كانت ترسِّخ من تلك الهُويّة.
أخذ عمر الخيّام بوصيّة القاضي ما تبقى له من عُمْرٍ، فقد وضع أبو طاهر تحت تصرّفه مشروعًا لتدوين رباعيّاته، وطلب أن يدوّن فيه خطراته الشعريّة، وبذلك وهب الحياة لأكثر أسرار تاريخ الآداب استغلاقًا، ففي طيّات ذلك المخطوط تنامت الرباعيّات سنة بعد أخرى، ثم ظلّت مدفونة “مدة ثمانية قرون قبل أن يكتشف العالم شعر عمر الخيّام الرفيع، وقبل أن تبجَّل الرباعيّات على أنها أكثر الأعمال طرافة على مرّ الزمن”. لم يحرّر القاضي المتهمَ، ولم يرمِه في المعتقل، إنّما وضعه في مقصورة خشبيّة فوق تلّة في بيته ليكتب فيها أشعاره، فطردت هذه الضيافة الغريبة النوم عن الخيّام، وظلّ ساهرًا يراقب المنضدة الواطئة، وعليها قلم ودواة ومصباح مطفأ، ثم الصفحات البيض المفتوحة بانتظار أن يضع عليها أولى رباعيّاته.
مرّ زمن قبل أن يدوّن الخيّام شيئًا في دفتر أبي طاهر. فقد شُغلت سمرقند بتهديدات السلاجقة، وأُلحق الخيّام في بلاط الخان “نصر” بفضل القاضي الذي عرض عليه رعايته، ثم اقتحمت حياته أرملة طروب تدعى “جهان”، فكانا يمضيان الليل معًا في مقصورة الخيّام. وحينما نجح الشاعر في نظم رباعيّتين، عرفت “جهان” بالأمر، وهي شاعرة أيضًا، فندّت عنها صيحة استنكار أشبه ما تكون بزفرة احتقار؛ وأنحت باللائمة على الشاعر؛ لأن الرباعيّات “فنّ أدبيّ ثانويّ خفيف، بل سوقيّ، يليق أكثر ما يليق بشعراء الأحياء الوضيعة”، فلا يجوز للخيّام نظم رباعيّات لا قيمة لها في تاريخ الأدب. ثم حذّرته أن يتحاشى إطلاع الخان على شيء ممّا كتب؛ فهو لا يقدّر هذا الضرب من الشعر، ولا يرعى أصحابه، وإذا ما جازف عمر ووضع الرباعيّات بين يديه، فلن يدعوه قطّ للجلوس معه على سرير الملك بوصفه شاعرًا ذا شأن. لم يخطر ببال الخيّام كلّ ذلك، إذ لم يتمرّس في أن يكون شاعرًا في بلاط أحد كما هو أمر “جهان”، فجاء ردّه عليها “ليس في نيّتي تقديم هذا الكتاب إلى أيٍّ كان، ولا أرجو أن أجني منه أيَّ ربح، ولا أملك شيئًا ممّا يطمح إليه شاعر من شعراء البلاط”.
كان الخيّام عزوفًا عن طلب المجد من غير نفسه منذ بداية أمره، وقد شغل باكتشاف ذاته وباكتشاف العالم. لكنّ حدثًا جللاً انتزعه من تأمّلاته، وهو ظهور الوزير “نظام الملك” والداعية “حسن بن الصباح”. الأوّل بوصفه حاكمًا حصيفًا، والثاني باعتباره قاتلاً محترفًا، وما لبث أن نشب النزاع بينهما على الرغم من عهد الصحبة الأبدية الذي اتفقا عليه في زمن الصبا. حدث ذلك في “أصفهان” حيث انتهى الأمر بالخيّام، فنتج عنه تغيير كامل في أسلوب حياته، إذ فقد حُماته الكبار في خضمّ الصراع الدمويّ على الحكم، فأصبح طريدًا يدوّن بين وقت ووقت، في هذه المدينة أو تلك، رباعيّة وأخرى على صفحات مخطوطته.
وكان أن أصبح أحد حرّاس نظام الملك، واسمه ورطان، مريدًا للخيام بعد مقتل مولاه، فلازمه ملازمة القرين مخلصًا على أمل أن يقوده الشاعر من حيث لا يقصد إلى قلعة حسن الصباح للانتقام منه، لأنه تسبّب في قتل سيّده، لكنّ مصاحبته للشاعر أحالته تابعًا مخلصًا، ثم شارحًا لرباعيّاته، وساردًا لسيرته في حواشٍ تركها على هامش المخطوط، فأصبح بذلك مؤرّخًا للرباعيّات التي كانت تنموّ بتطواف الخيّام في دار الإسلام، وكان معه حينما تلقّى الخيّام وهو في “مَرْوَ” دعوة من حسن الصباح ليقيم معه محميًّا في قلعة “ألَمُوت”. وفي موقف ملتبس دفع ورطان حياته ثمنًا لحواشيه على رباعيّات مولاه. وانتهى الأمر باختطاف الكتاب والاحتفاظ به في القلعة، وذلك في محاولة لإغراء الخيّام بتعقّب رباعيّاته إلى حيث أصبحت. ماذا يفعل الشاعر وهو في منأى عن رباعيّاته؟ قرّر أنّه “لن يسعى أبدًا للاحتفاظ بأثر عن المستقبل، لا مستقبله هو، ولا مستقبل قصائده”. فقفل عائدًا إلى “نيسابور” مسقط رأسه. وهنالك قرّر “التوقف عن الكتابة”. حينما يمتنع شاعر مثله عن الكتابة ينبغي أن يموت، وكان كذلك، وهو يقرأ كتاب “الشفاء” لابن سينا. توفي في نيسابور عن أربع وثمانين سنة، وكان تنبأ قبل موته بعشرين عامًا أن قبره سوف يكون في “مكان تَنثر فيه ريح الصّبا الأزهار في كلّ ربيع”. وبموته شقّ ديوانه طريقه للحياة، فقد وصل إلى قلعة “ألَمُوت” لكن حسن الصباح أبى أن يودعه في المكتبة الكبرى للقلعة، بل حفظه في منزله، “داخل مشكاة محفورة في الجدار ومحروسة بشبكة ثخينة من المعدن”.
وحينما توفّي الحسن بن الصباح عن نحو تسعين عامًا، لم يجرؤ خليفته الإقامة في عرينه، ولم “يجسر على فتح الشبكة العجيبة” التي يقبع فيها المخطوط محبوسًا، ولجيل آخر لم يغامر أحد فيقترب إلى ملاذ الرباعيات، حتى ظهر أحد الأحفاد المتمرّدين على تعاليم الجدّ الكبير، فخرق قدسيّة المكان وانتزع المخطوط، ثم نفض الغبار عنه، وعكف في بيته يقرأ رباعيّاته، ويعيد القراءة، وبتأثير منها حرّر أتباعه من نواهي الشريعة، معلنًا يوم الخلاص من تركة المؤسّس الصباح، ثم أمر بإجلال المخطوط بوصفه كتابًا عظيمًا من كتب الحكمة، وعَهد إلى بعض الفنانين بزخرفته: برسوم بالزيت وزخارف وصندوق من الذهب المنقوش المرصّع بالحجارة الكريمة، بل إنّه أصدر أمره “بمنع نسْخه حفاظًا على فرادة النسخة التي أصبحت بحوزته”.
آخر ما انتهى إليه أمر المخطوط أنّه حفظ في قلعة الحشّاشين، فصار محلّ تنازع، إذ كلّ يريد الاستئثار به، وحينما ترجم إلى اللغات الحديثة في القرن التاسع عشر، أصبح الموضوع الأثير في الثقافة العالميّة، فتتبّع الأصل رجل أميركيّ من أمّ فرنسيّة، يدعى “بنجامين عمر لوساج” وتمكن من الحصول عليه، وحينما حاز عليه كان مصيره الغرق، فلا يعيش كتاب استبطن ملذّات الشرق في سياق لا صلة له به.

عن الرياض | موقع قلم رصاص

عن قلم رصاص

قلم رصاص

شاهد أيضاً

أيمن ناصر … انطفأ قنديل آخر

رحل الفنان التشكيلي والنحات والروائي الفراتي أيمن ناصر إثر صراع مع المرض في مدينة أورفا …