دمشق | مناهل السهوي
يطل علينا الشاعر والمترجم السوري علي كنعان بمجموعته الشعريّة العاشرة (غيوم الخشخاش) الصادرة عن دار التكوين الدمشقية (2016)،عبرعنوان يحمل توتر النص في حالاته الغيبية، فما نبات الخشخاش سوى حالة من اللاوعي تُدخِل صاحبها في حالة عُليا خفيفة ومربكة، تماماً ككثافة الغيوم، كأن الشاعر يهيئ القارئ لمجموعة نصوص منفصلة عمّا حولها مشبعة بإنفعالية خاصة.
أربع وعشرين نصاً تتراوح بين الطويلة والمتوسطة الطول، تقدم مشاعر الوحدة والغربة من خلال سلسة طويلة من الاستحضارات لأساطير وآلهات وأماكن، وكأنما يريد صاحبها، دمج ذاته الإنسانية بكلّ مراحل وأشكال الحياة على الأرض، ولا ننسى أن تجربتهتبدو انعكاساً لحياةٍ قضاها الثمانيني متنقلاً بين عدّة بلدان،محاولاً بحساسيته تقديم تلك الرحلة في نص واحد دون أن يصل المتلقي أي شعور بالتشتت أو الاستهجان، هكذا تكمن قدرته على توحيد المكان:
(ربما كان إيوان كسرى
أو شبيها به
ربما اختلطت أصفهان
بدلهي.. وغامت دمشق
رؤى في مرايا سمرقند
سكرى
لتصحو في ساحل الصين)
هذه الاستحضارات من الأماكن ليست مجانية من شاعر يدرك المكان كحالة كليّة ويغامر بتوحيد الألم والغربة، كأنه يقدم شِعر الحضارات، فلا يخلو نص من محاولة دمج ذاته في حضارة أو أسطورة ما، توحيد المكان الذي لا ينفصل عن ألم وقلق ذاتي إنهما لصيقان معاً:
(لا معالم توحي بمن عبروا قبلنا
لا صحائف منقوشة، لا رسوم
ولا بدء.. لا منتهى.. لا وسط)
وبالانتقال إلى علاقة الشاعر مع الأنثى فمنذ البداية يقدم كنعان العديد من أشكال الآلهة الأنثى من عشتار لإنانا،فارتميس وغيرهن.. كلما ازداد الألم في مقطع ما، استدرك الشاعر ذلك واستنجد بالأنثى من خلال اللقب الأقرب لروحه، ليقدم أنموذجاً غير محدد من الانثى، بهوية شاملة تحوي داخلها صراعات الكون وآلامه:
(أقول لعشتار / لُوناي في عيدها الفلكي
تعالي إلى كوكبي
أضيئي زواياه.. طوفي به)
ومن هنا يخرج الشاعر بنصوص تظهر تجذّره الكوني بالعناصر وبالطبيعة،وكأنه يبدأ بالأنثى في رحلته لاستكشاف الخلق الذاتي، ليدرك العناصر في الخارج، مستقصياً أهمية المتناقضات والأشياء، ليغدو الشّعر خيميائية مدهشة من تجارب شعريّة وحياتية ومكانية كبيرة:
(هل التحم الماء والرمل والشهوة البكر
في معبد النار والطين والريح
ـ أعني مدار سعار عتيّ من الغُلمة البدوية ـ
إلا لتخمير كون جديد؟)
الشاعر الذي درّس الأدب العربي في جامعة طوكيو باليابان لثلاث سنوات، يقدم في مجموعته لغة متينة بتراكيب تنتقل بسيطة وبليغة في آن، مقدمة تجربة طويلة وغنية في صورة عن التداعيات المختلفة التي يعيشها:
(عبثاً أتوارى وراء سراب
من الكلمات
كما يتوارى يتيم
تناهت إلى غاره الجبلي
روائح راشحة من ضروب الولائم
في دار طاغية دمويّ)
في محاولة لإيجاد المنفذ الوجودي،تكاد لا تخلو قصيدة في مجموعة (غيوم الخشخاش) من تساؤل، كأن الشاعر يحاول التخلص من أعباء الأسئلة التي تثقل حياته بالبحث الدائم عن مخرج آمن. الأسئلة هنا هي مناجاة في بعض الأحيان وفي أحيان أخرى هي أجوبة مبطنة أو بوابة مفتوحة للاشيء:
(“هل تنتهي دروبنا يوماً
إلى هذا الخراب؟”
لا تسألي, ياطفلتي
حياتنا بكل مافيها
من الأهواء
والأفراح
والأحزان
لن تكون
أكثر من حكاية)
خاص موقع قلم رصاص