الرئيسية » رصاص خشن » «بطرس سمعان» قصة لليمني بدر أحمد

«بطرس سمعان» قصة لليمني بدر أحمد

-1-

بيروت شتاء 1981 السابعة مساء…

الظلام يلف المدينة الحزينة،السماء تغسل الأرض والمباني بغزارة لم نعهدها من قبل، أو على الأقل لا أتذكر أنها حلت على هذه المدينة منذ ان وعيت.

لا يخدعنك هذا الصمت الماكر، فالحرب مازالت مستعرة، لكن المطر أعطاها استراحة قصيرة، كي تعيد ترتيب أوراقها وسن مخالبها.

 أنا ما زلت في عيادتي التي تقع في الطابق الثالث من عمارة مكونة من سبعة طوابق، الصمت يسدل أستاره الثقيلة ليس على كياني فقط ولا على حواسي ولا على الأثاث والجدران، بل على كل شيء هنا، أشعر بفراغ الغرفة يمتلئ بأثير ثقيل لغاز مخدر عديم اللون والرائحة، أشعر بخدره يتسلل إلى ذهني وأطرافي ويقتل الحروف على لساني، وحده مصباح السقف يمزق ثقل الصمت ورتابته، يحشرج و يتأرجح ويطقطق دونما سبب واضح، جو الغرفة مكتوم ومعبأ برائحة الورق والأثاث القديم والتبغ المحروق.البرودة تتسلل عبر الشقوق ومن تحت أعقاب الأبواب ومن خلف النوافذ الموصدة، ثم تخترق الثقيل من الثياب وتعبث بكيمياء الجسد ، فتبعث في النفس شوقاً متوحشاً وغريباً لسيجارة أو لمشروب يكسران حدة البرد والخمول المتصاعدين في الجسد.

آخر مريض غادرني قبل نصف ساعة بعد أن أجريت له كشفاً سريعاً، كان مريضاً استثنائياً، يعانى منذ  أسبوع من أرق سرمدي، ولا يشعر بأي رغبة في النوم، فقط يقظة ما لها من نهاية، وجد نفسه في هذه الحالة بعد أن سمع خبر مقتل تسعة من أفراد أسرته دفعة واحدة  في”الدامور”. حقيقة أنه لشيء جنوني أن تجد نفسك في حالة يقظة دائمة، لا تستطيع إغماض عينيك، ولا تستطيع أن تتخلص من وقع الأصوات وصخب الحياة على أذنيك وذاتك، وتظل تراقب ذاتك وهى تهوي نحو هاوية الجنون والهلوسة لحظة بلحظة.

ما عساك وفاعل أن وجدت نفسك في يقظة سرمدية وتحاصرك ذكرى مؤلمة لا تستطيع الفكاك من التفكير فيها؟

حتى الأقراص المنومة والكحول لا يمكنها منحك امتياز الراحة والإقلاع عن مرافئ الألم التي وجدت نفسك فيها على حين غرة.

أطفأت النور وتركت فقط إضاءة المكتب الجانبي  مضاءة، الضوء الخافت يريح عينيّ، سرت ثلاث خطوت نحو براد جنرال فتحته وصببت لي كأساً من المشروب والثلج، ارتشفت رشفة، صدمني الطعم اللاذع للمشروب جلست خلف مكتبي، وضعت الكأس جانباً وخلعت نظارتي وطويت كمي قميصي، ثم مضغت قرصين من الاسبرين الفرنسي، التقطتُ من على سطح مكتبي علبة سجائر، وجدتها فارغة، اعتصرتها ثم رميتها بعيداً كيفما اتفق، فتحت أحد أدراج المكتب، والتقطت علبة أخرى جديدة، أشعلت سيجارة ورحت أنفث دخانها في سماء الغرفة محاولاً استجلاب أكبر قدر من الهدوء والسكينة الى نفسي.

قاوم ذهني بحرالسكينة الذى أحاول إغراقه فيه، فتحت عينيّ، سمعت صوت الممرضة تتحدث إلى شخص ما في الصالة:

  • السما عم بتشيل من البحر وتكب علينا.
  • ……
  • لك اللي عم بينزل من السما أكتر من اللي عم بيطلع من الأرض.

وميض برق أضاء في الخارج وأضاء الغرفة لأجزاء من الثانية، ثم هز صوته النوافذ الزجاجية، لدي متسع من الوقت ولا رغبة لي في الخروج الآن، وضعت السيجارة جانباً ثم جذبت أحد الأدراج، أخرجت منه حزمة من الملفات، بدأت أقلبها على غير هدف، انتزعت أحد الملفات، وضعت السيجارة في بين شفتي وحاولت أن أقلب أوراق الملف( وضع السيجارة بين الشفتين والانشغال بأي شيء اخر، عمل كان يتقنه صديق قديم لي اسمه” ميشال عواد” هذه الطريقة  في شرب السجائر تجعلك تبدو محترفاً وصارماً و لا أدري ماذا أيضاً، حاولت كثيراً أن اتعلمها لكني في كل مرة كنت أفشل لأني لا أستطيع احتمال حرقة الدخان الذي يدخل إلى عيني هذا الصديق لقي حتفه في أحداث السبت الأسود) وضعت السيجارة جانباً وأنا أقاوم الحرقة في عيني، ثم فتحت الملف المضمخ بالصفار والقدم، طالعتني البيانات….

اسم المريض: بطرس سمعان ..

الجنس: ذكر.. التاريخ:24-8-1977م..

السن:54..

العنوان: بيروت – الاشرفية -8 عمارة بير الطحان..

 التشخيص: فصام حاد فئةA.

الأدوية الموصي بها :

…………………………….

قلبت الملف المكتنز بالأوراق والتحاليل ونتائج الجلسات التي أجريت له على يد الاخصائيين النفسيين في أكثر من عيادة ولفترة تمتد إلى حقبة ما قبل الحرب وما بعدها.

استغربت عدم وجود صورة للمريض، وعند قيامي بإغلاق الملف سقطت منه صورة قديمة مصفرة، التقطت السيجارة وسحبت منها نفساً طويلاً ثم أطفأتها بأصابع مرتعشة في منفضة السجائر الممتلئة، ثم التقطت الصورة ، قلبتها بين أصابعي، في الجهة الخلفية للصورة كُتب بحبر أحمر متفسخ (بطرس سمعان77) ، وضعت الصورة أسفل إضاءة المكتب، كانت الصورة قديمة حائلة الألوان، حاولت أن أتبين ملامح صاحب الصورة، وبالكاد استطعت أن أرى وجه رجل في العقد الرابع من العمر نحيل بشعر أبيض غير مرتب، بدا لي شديد الشبه بأينشتاين، حاولت أن أتذكر صاحب الصورة، ولكن دون جدوى، لا أتذكره إطلاقاً، ثبتُ الصورة بمشبك ورق على غلاف الملف وأغلقت الملف، ثم أشعلت سيجارة ثالثة وأعدت الملفات إلى مكانها، وأنا أحاول أن اتخيل كيف يمكن لإنسان أن يحيا بشخصيتين منفصلتين ومختلفتين تماماً.

طويت الأمر جانباً ثم نهضت من خلف مكتبي وسرت نحو النافذة التي تدعم زجاجها خطوط متقاطعة من الاشرطة اللاصقة، كانت الأمطار تغسلها من الخارج، وقفت أمامها أدخن سيجارتي وأحدق في بيروت المظلمة من علو ثلاثة طوابق.

كان المطر يغسل المساكن والأزقة والأشباح وأضواء السيارات القليلة، في زوايا متباعدة تبدو مصابيح واهنة يحاول المطر الثقيل خنقها، سيارات يتيمة تقطع وحشة الشارع بسرعة، وميض برق يمزق ظلمة السماء ويعطى انطباعا مؤلما وحزينا للمشهد.

على إطار النافذة ارتصت أعقاب سجائر مهروسة، أطفأت سيجارتي بينها كيفما اتفق، وأشعلت سيجارة أخرى وأنا أحدق في شبح يعبر الشارع راكضاً، تتفاداه سيارة مسرعة تنحرف بحدة دون أن تتوقف.

تناهى إلى مسامعي صوت نقرات حذاء الممرضة على أرضية الصالة، صوت همهماتها الخافتة، قررت المغادرة، هاتفتُ زوجتي، ثم ارتديت معطفي وقبعتي وغادرت.

في الصالة كانت هدى(الممرضة) تجلس خلف مكتبها الصغير تكتب شيئاً ما، أخبرتها أني سأغادر فلم ترد ولم تبدر منها أي ردة فعل، حدقت فيها لثوان ثم تركتها وغادرت، أستطيع القول إنها غريبة الأطوار، لا أدرى متى تحزن، ولا متى تكون سعيدة، ولا متى تكف عن العبوس والتذمر، أكره النمطية، وأكره التدقيق في التفاصيل، ولذلك فما دامت تقوم بواجبها على أكمل وجه فبقية الأمور لا تعنيني.

-2-

أسفل العمارة وقفت لحظات أحدق في الأرض التي تفور بالمياه، في الجهة الأخرى تقف سيارتي المرسيدس البيضاء التي يلمع طلاءها على وقع وميض البرق والأضواء البعيدة، رفعت ياقة معطفي وشددت قبضتي على مقبض حقيبتي ثم عبرت الشارع المكتظ بالمياه، صفعتني الأمطار بقوة أفقدتني القدرة على الإبصار، وصلت إلى السيارة، بحثت في طيات ثيابي عن المفاتيح، وبعد أن جربت كل مفاتيحي وبعد أن ركلت إطار السيارة، دسست المفتاح اللعين في ثقب الباب ودلفت الى دفء السيارة، البلل يمضغني، أغلقت الباب بعنف، نظفت نظارتي، ثم أشعلت بصعوبة سيجارة  باضطراب سحبت منها أنفاساً سريعة، وبعد أن تسلل الهدوء الى نفسي، ظللت أحدق في الشارع المعتم، ثم أدرت محرك السيارة وانطلقت بها ببطء، كان المطر غزيراً جداً، يضرب سقف السيارة وبدنها بقوة، بدت لي الشوارع كمغارات مظلمة لا نهائية الامتداد، المطر والظلام طمسا كل معالم المدينة، وأجد صعوبة بالغة في التعرف على الطرقات والزوايا، لا أدرى متى تعطلت ذراع  تنظيف الزجاج الأمامي، حاولت جاهداً أن أقود بذراع تنظيف واحدة و يالصعوبة ذلك، أمام تلك العتمة الرمادية  والبحيرات والمزاريب وجدتني أقول بشرود:

  • لم تمطر سماء بيروت هكذا منذ عصور.

أشعلت سيجارة ثم استدرت بسيارتي نصف استدارة ثم عبرت شارعاً طويلاً مظلماً، بدا لي كهاوية سحيقة مظلمة مالها من قرار، وحدها مصابيح السيارة  تكشف بخجل عن حطام سيارات محترقة وزوايا وجدران مدمرة وأكوام من الركام هنا وهناك، هوت السيارة مرات ومرات في حفر مملوءة بالمياه، اطفأت سيجارتي وأشعلت أخرى، درت بعيني في الأنحاء، لا أدرى أين أنا، يخيل لي أني ظللت الطريق، وقبل أن يغادر هذا الخاطر ذهني هوى إطار السيارة الأمامي الأيمن في حفرة عمقية، جنحت السيارة على جانبها الأيمن بعنف، ارتطمت جبهتي بالمقود، تناثرت أغراضي على أرضية السيارة هتفت بارتباك و دون وعي:

  • يا إلهي ، أي مأزق لعين هذا؟

بعد لحظات استعدت رباطة جأشي ثم درت بعيني في الظلام والمطر كان المكان خالياً ومقفراً، سرت في جسدي قشعريرة باردة، راح القلق يفور بداخلي باضطراد، أعدت ذراع التعشيق إلى الخلف، حاولت أن أعيد السيارة إلى الخلف، زأر محركها وصرخت تروسه بألم، تعالت إلى أنفي رائحة مطاط محترق، وبعد أن أجهدت السيارة كثيراً، غادرت السيارة الحفرة، واستعدت السيطرة عليها، توقفت للحظات درت بعيني في الوحشة السرمدية التي تحاصرني من الجهات الأربع، أشعلت سيجارة سحبت منها نفساً عميقاً ثم انطلقت بسيارتي إلى الأمام.

بعد ثمانية عشر مبنى لاح شيء في وسط الطريق، من خلف زجاج السيارة الذي غدا شبه معتم حاولت أن أتبين ماهية هذا الشيء ولكن دون جدوى، خففت من سرعة سيارتي إلى أقصى حد، دنوت من زجاج السيارة الأمامي، ثبتُ بسبابتي إطار نظارتي، لا شيء واضح يلوح لي، اقتربت أكثر، وفجأة ضغطتُ بكل ثقل قدمي على فرامل السيارة ، توقف السيارة كلياً، وعلى وقع أضواءها شاهدت حاجزاً من أكياس الرمل والحجارة والبراميل يقطع الطريق أمام القادمين، كنت على بعد 100 متر تقريباً من الحاجز، ومن مكاني أستطعت أن أرى علم مليشيا القوات اللبنانية مطبوعاً بالطلاء على البراميل.

-3-

حين شاهدت علم القوات اللبنانية على الحاجز، انتبهت وكأني صحوت من حلم مزعج، دق ناقوس الخطر بداخلي، وأدركت في أي مأزق لعين أنا، باضطراب وبذعر بدلت وضعيه ذراع التعشيق إلى الخلف، صرخت تروس المحرك مذعورة، التفت نحو الزجاج الخلفي وقبل أن تتحرك السيارة إنشاً واحداً، دوى في المكان صوت  طلقات نارية، أصاب إحداها المصباح الامامي للسيارة، وأخرى أصابت المحرك فخبا صوته على الفور، وأخرى ضربت بدن السيارة، وأخرى ثقبت الاطار الأمامي فترنحت السيارة واستقرت مائلة على جانبها الأيمن، كنت أسمع الرصاص يضرب بدن السيارة كما تفعل حبات البرد، شل الخوف كل تفكيري، تسمرتُ خلف المقود، أيقنتُ بالهلاك، ولم أعد قادراً على إبداء أي ردة فعل، كان صوت الرصاص يصارع صوت المطر على بدن السيارة، أغمضت عينيّ في انتظار ثقب بارد يثقب جسدي.

حين خبى صوت الرصاص، فتحتُ عينيّ، وعلى وقع ضوء المصباح الأخير للسيارة شاهدت ايداً تلوح، من خلف الحاجز، أنزلتُ زجاج باب السيارة باضطراب، أخرجت رأسي نحو المطر، تجاهلت ثقله، وصحت بكل ما أملك من قوة:

  • من شان الله لا تقوص.. من شان الله لا تقوص.

جاءني  صوت عبر مكبر صوت:

  • أنزل ع الأرض… أنزل ع الأرض.

فتحتُ باب السيارة وترجلت منها رافعاً كفي بمستوى رأسي، دارت عيناي في المكان الغارق في الظلمة والمطر والمياه والبرد، غاصت قدمي في بركة من المياه، دوى صوت إطلاق نار، انكمش جسدي، أغمضت عينيّ وحبست أنفاسي، أحدهم – لا اتذكر من يكون- قال لي إن الإنسان لا يشعر بالرصاصة حين تخترق جسده، على وقع هذا الخاطر حركت أطرافي بوهن، أو هكذا خيل لي أنى فعلت، عاد الصوت ذاته من خلف الحاجز يخترق المطر ويبعثرني:

  • أبعد عن السيارة وأنزل ع الارض.

نقلت بصرى نحو مصدر الصوت ونحو الحاجز ونحو السيارة والأرض، خطوت بضع خطوات رافعاً يدي فوق كتفي، ثم جثوت على ركبتي ووضعت يديّ خلف رأسي وصحت مجدداً:

  • من شان الله لا تقوص، أنا طبيب، أنا طبيب.

دوت طلقات أخرى تناثر على أثرها الماء وشظايا الإسفلت على وجهي وجسدي، عاد الصوت ذاته يكرر كلماته بلهجة أكثر عدائية:

  • ع الأرض… ع الأرض.

بما تبقى لي من وعى أدركت ما يريدون، وانبطحت على بطني فوق الإسفلت والماء، اندفعت المياه إلى صدري وسائر جسدي، جاهدت مذعوراً لرفع وجهي عن الماء، ولكن دون جدوى، سمعت صوت خطوات ثقيلة تضرب المياه، من خلف زجاج نظارتي المخضب بالمياه والوحل شاهدت ثلاثة رجال يرتدون مشمعات بلاستكية يتقدمون نحوى شاهرين أسلحتهم، في تلك اللحظة كنت أغرر بالمياه وكنت أبصق المياه والوحل من حلقي، لا أدرى أي خدر ذاك الذي بدأ يسري في أوصالي، ولا أدرى لماذا راودني خاطر قوى بأني في حلم، نعم في حلم، وبأني سأفتح عينيّ بعد ثوان وسأجد نفسي في سريري الدافئ في منزلي، في تلك اللحظة أيضاً تذكرت “نجوى ” زوجتي، أنها الآن تنتظر ولا شك، هل يا ترى تأخرت عنها أكثر مماهو مفترض؟، لابد أنها تلفنت إلى العيادة مرات ومرات كعادتها حين لا أصل إلى البيت في موعدي، انتزعني من دوامة الخدر والتساؤلات صوت أحدهم:

  • هويتك.

-4-

رفعت عيناي بصعوبة نحو مصدر الصوت، شاهدت حذاء عسكرياً طويلاً ورأس بندقيةM16 ، بحثت في ذهني عن هويتي، في السيارة؟ في العيادة؟ في البيت، في جيب معطفي؟، حقيقة لا أدري، لكن يراودني شعور قوى بأنها ليست معي، سمعت صوت باب السيارة يفتح، وصوت محتوياتها تفرغ على الأرض، اندفعت موجة من المياه غمرت وجهي وكتمت أنفاسي، رفعت رأسي بصعوبة وشهقت شهقة طويلة، ثم صحت بحروف لاهثة:

-إننى اختنق.

أحدهم جذب إبرة بندقيته وقال بصوت غاضب:

  • هويتك يا ابن …..

رفعت رأسي فوق مستوى المياه مجدداً وقلت بانهيار/ برجاء:

  • هويتي نسيتها، والله نسيتها.

أحدهم وضع فوهة البندقية وسط ظهري واتكأ عليها، أخر صاح  بصوت أجش:

  • فتشوه.

آخر دنا مني وراح يعبث بفضفاضة بملابسي وثنايا جسدي، لهثت، سعلت، فارت المياه في فمي، تعالت الحرقة في عيني، تعالى مذاق التراب والمطاط في فمي، سمعت صوت الرجل الذي يفتش السيارة يضحك بسخرية وهو يفرغ حقيبة يدي على الأرض، شاهدتُ الأوراق تطفو على المياه ثم تندفع معها نحو الظلام، تداخلت الأصوات، بدأت قواي تخور، قررت الاستسلام للخدر والمياه، البندقية مزروعة وسط ظهري، في الثواني التي وصلت فيها إلى قناعة بأن الوضع الراهن لن يتغير وبأني سأظل هكذا في هذه الوضعية إلى أن ألقى حتفي، انتزعت فوهة البندقية المزروعة وسط ظهري، وركلني احدهم على جانبي الأيمن بعنف، وهو يقول بمقت واضح:

  • هيا قف.

تكور جسدي حول نفسه ألماً، تأوهت، اندفعت المياه والوحل إلى فمي، سعلت، نعم سعلت كما لم أفعل من قبل، نهضت بصعوبة، جلست على ركبتي، وصلت إلى حافة القيء، أحدهم أمسك بمقدمة شعري وجرها إلى الأعلى بقسوة أرغمتني على الوقوف، من خلف زجاج نظارتي شاهدت ثلاثة أجساد تغطها المشمعات البلاستيكية، أسلحة مشهرة، لحى كثيفة مبللة، وأصابع تتراقص على الزناد باشتهاء واضح.

عاد السؤال ذاته ينقر مسامعي، ويهز دواخلي ويعتصر بقسوة كل مواطن ارتباكي وهلعي.

  • أنت من وين ولا وين رايح؟!

كنت أسعل ولا أدري أيهم ألقى السؤال، دارت عيناي في الوجوه، ذهني عاجز عن التفكير، أطرافي ترتعد رغماً عني، فبريق الشر يومض في العيون، اختنقت الكلمات بداخلي، تداخلت المواضيع في رأسي، تداخلت الأسماء والأصوات، مر وميض سريع أمام عيني، يحوى فسيفساء من الصور والأصوات والمشاهد، أمسكت برأسي والسؤال ما زال يتردد بداخله بدوى رهيب، ورغم ذلك تذكرت بما تبقى لي من وعي أن القتل في هذه البلاد يجري على الهوية، وبأني أقف على مشارف الموت، اسمي وهويتي سيوديان بي حتماً، دارت عيناي في الوجوه التي تترقب الإجابة، على غير وعي قررت أن أواجه قدري على أي وجه كان لم يكن هذا القرار شجاعة مني، بل كان الاستلاب الذي يولده الخوف، وربما هي أولى أعرض متلازمة ستوكهولم، نعم أتذكر أني قرأت شيئاً بهذا المعني.

أحد الواقفين بصق على يمينه مرتين وهو يحدق نحوي منتظراً إشارة الانقضاض، كدت أن انطق اسمى”محمد خليل”، لكن رغبة الحياه طغت على كل شعوري بالعجز والاستسلام لمصيري المحتوم، لكني وكمن صحى من حلم قلت بسرعة ودون تردد:

  • بطرس سمعان… بطرس سمعان… طبيب أسكن الاشرفية.

على إثر كلماتي سافرت الهمهمات ونظرات الاستغراب بين الأشباح الثلاثة، دارت عيناي في الوجوه، أومض البرق فأضاء الأنحاء، حاولت أن أقول شيئاً، أحدهم جذب إبرة بندقيته ورفعها نحوي قائلا بعصبية:

  • حتى لو كنت المسيح بذاته سأقتلك الليلة.

وافقه الآخر، إلا أن الرجل الثالث أخرج رأسه من قبعة المشمع تاركاً الأمطار تمشط غابات رأسه ولحيته، وبعيون ضيقة تجاهد غزارة المطر اقترب مني وهو يقول بحزم :

  • بطرس سمعان!!، هة ؟ ولماذا أنت هنا؟

دارت عيناي في الوحل والظلام والوجوه قبل أن أقول لاهثاً:

  • يبدو أني ظللت الطريق ودخلت إلى الغربية، أشكر الرب الذى أعادني إلى هنا، وإلا لكنت الآن في عداد الأموات.

على الرغم مما جاهدت لقوله إلا أن كلماتي التي حاولت أن تكون صادقة لم تفلح في إقناع الرجال وما زلت أرى رغبة متوحشة  لتمزيقي تتأجج في الوجوه والاحداق، ثلاثة رجال انضموا بلغط الى زملاءهم، تمنيت أن ينتهى الأمر عند هذه النقطة وأن أعود أدراجي، وأقسمت بأني لن أعود إلى هذا المكان بل ولن أقود سيارة في هذه البلاد ما حييت.

-5-

  بطرس سمعان … بطرس سمعان …. بطرس سمعان … كطنين مؤلم راح الاسم يتردد في رأسي، الشوارع خاوية ومظلمة، الجالسين في المقعد الخلفي يتحدثون ويكركرون بشبق واضح، أحدهم رمى زجاجة بيرة فارغة عند مفترق طرق تعالى على إثر ذلك نباح كلب، الأخر رفع قدميه وأسندهما خلف رأسي مباشرة، عاد ذات الاسم وذات الطنين، بطرس سمعان …. بطرس سمعان …. بطرس سمعان …

أحاول أن أتذكر صاحب الاسم، عدا تلك المعلومات القليلة التي طالعتها في ملفه الصحي لا أتذكر شيئاً آخر عنه، ولا أذكر حتى هيئته، ولا أتذكرالمرة الأخيرة التي زارني فيها، لكن يبدو أن ذلك كان منذ زمن بعيد، كما أني لا أعلم إن كان ما يزال على قيد الحياة وإن كان مازال يقطن في ذات العنوان المدون في ملفه، وإن كان كذلك فهل سيتذكرني ويدرك في أي مأزق لعين وقعت فيه؟، أم أنه سيشي بي لرجال الكتائب، يا إلهي، راحت الأسئلة تنخر رأسي نخراً مؤلماً، يزيد من حيرتي ومن شلل تفكيري، أدركت تمام الإدراك أني سألقى حتفي دون شك، فالرجل – بطرس سمعان –  وبحسب تقريره الطبي الذي طالعته، يعانى من حالة فصام ويخضع لبرنامج علاجي دقيق، خبرتي كطبيب تجعلني على يقين أنه لن يتعرف على، وإن فعل فما أدراني أنه لن يكون في إحدى أطوار حالاته المرضية، أو تحت تأثير الأدوية المهدئة وسيكشف شخصيتي الحقيقية أمام رجال الكتائب، وستكون النهاية التي لا فرار منها هذه المرة، يا إلهي من سيخبر نجوى بما أنا فيه الآن؟، هل من العدل أن ينتهي مشوار حياتي على هذا النحو المؤلم؟، يوم غد سأكون ولا شك جثة مرمية في أحد الأزقة أو الشوارع الخلفية، بعد غد ستنشر الصحف صورة جثة تفغر فاها للسماء تحدق بجمود في اللاشيء وتحت الصورة عبارة مجهول الهوية وتاريخ ومكان العثور على الجثة، المرارة تتصاعد إلى حلقي، رغم برودة الجو والبلل، أحسست بالحرارة تندفع إلى سائر جسدي، الرجل الضخم الذي يقود السيارة يبدو واجماً لا ينبس ببنت شفة، الضجيج يتعالى من المقعد الخلفي، كثيراً ما تم نكز رأسي بقدم أحدهم عنوة، أشياء أخرى كثيرة كان يتوجب على أن أقوم بها في حياتي، لا أريد أن أموت الآن، أن كتب لي البقاء على قيد الحياة هذه الليلة سأقوم بها أقسم على ذلك ، ما زلت أتذكر أخر حديث لي مع زوجتي نجوى، قررنا أن ننجب طفلاً بعد زواج دام أربع سنوات، كنت أرفض خلاله أن ننجب طفلاً، نجوى الآن حامل، يالسخرية القدر أخبرتني بذلك اليوم صباحاً، وهذا يعنى أن نجوى ستصبح أرملة والطفل المرتقب سيرى النور يتيماً وسيعيش حاملاً عقدة نقص مستدامة .

ابتسمت!! ، وجدت نفسي أضحك!!، وميض البرق يضيء المكان، صوت البرق هز أعماقي ودفعني من وسط هستيريا الضحك إلى حافة البكاء دفعه واحدة، نقل الرجل الضخم بصره نحوي، ثم قال بعد أن عبرت السيارة إحدى الحفر بعنف :

  • أين في الاشرفية ؟

تاهت مني الكلمات للحظات قبل أن ابتلع غصتي وأقول بتردد:

  • 8 عمارة بيير الطحان شارع …..

توقفت السيارة فجأة التفت نحوي السائق وهو يقول بضجر:

  • ستقول ذلك منذ البداية .

أنهى عبارته وهو يبدل ذراع تعشيق السيارة ويعود بها بعنف إلى الخلف ثم يتوقف ويدخل شارعاً أخر مملوء بالحفر راحت السيارة تسير فيه بخط مستقيم ثم التفت بحدة في منعطف ظهر في نهايته حاجز تفتيش، توقفنا أمام الحاجز للحظات تبادل قائد السيارة مع أفراد الحاجز بعض الكلمات ، ومن ثم انطلقت السيارة على طريق اسفلتى طويل.

في تلك اللحظة المفعمة بالمطر والبرد راودني شعور بأني طريدة، نعم طريدة تلاحقها الذئاب، لكن لا ذئاب تلاحقني ولا مطاردة، لا لا لست طريدة أبداً بل أجدني نعجة تساق إلى سكين قصاب، بالفعل نعجة تساق إلى سكين قصاب هادئة مستسلمة لا تقوى على الاعتراض أو الفرار، يكبلها اليأس من قمة رأسه حتى أظلافها.

على غير ما توقعت وصلنا إلى المكان المنشود، توقفت السيارة أمام شجرة كرز انحنت أغصانها تحت وطأة المطر، طالعتني عبارة (عمارة بيير الطحان ) مكتوبة بثلاث لغات على لوحة مضاءة بالنيون معلقة على مدخل العمارة، ترجلنا من السيارة، أحد الراكبين في المقعد الخلفي يقهقه بعربدة واضحة، شعرت هذه المرة بالبرودة وبمثانتي تحتقن وتنتفخ بل خيل إلى بعد ثلاث خطوت خطوتها باتجاه مدخل العمارة أنها أصبحت كبالون يكبر ويكبر باضطراد، الرجل الذي كان يقود السيارة اصطحب معه رجلاً أخر ورافقاني إلى داخل العمارة، الرجل الأخير ظل على السيارة ينتظر أسفل مشمعه البلاستكي يدخن مستمتعاً بنقرات المطر على كل ما حوله، طالعنا بواب العمارة -على ما أظن – بنظرة فارغة ونحن نعبره دون أن يبدى إي تعبير أو تساؤل، بل ظل يدخن سيجارته ويرتشف الشاي هو يرسل نظرة واجمة نحو الخارج الذي يفور بالمطر، صعدنا  السلم، دون أن الفت انتباه رجال الكتائب رحت أحدق بسرعة في الأرقام المدونة على الأبواب محاولاً التقاط الرقم (8)، وفي نفس الوقت رحت اعتصر ذاكرتي محاولاً أن أتذكر ملامح الرجل، الوقت يمر سريعاً، الخوف يكاد يقيد حركتي، الأمل ضعيف بالنجاة، لكنى سأتمسك به حتى النهاية، عيناي ما زالتا  تتصفحان الأبواب المغلقة، على السلم تعثرت مرتين، صادفنا في الطابق الثاني رجل وزوجته بديا لي بوجهين مألوفين للغاية، حدقا فينا للحظات قبل أن تهمس الزوجة في إذن زوجها بشيء ما ثم أفسحا لنا الطريق لنمر، في الطابق الثالث  لمحت الشقة رقم (8) ، بيد يهزها الخوف والبلل  أشرت نحو باب الشقة، إلى جوار باب الشقة لوحة نحاسية كتب عليها بالعربية والفرنسية (د بطرس سمعان) ، امتدت يدي إلى جيبي أبحث عن شيء ما، وقفنا أمام الباب، احد الرجلين تراجع إلى الخلف وأصبعه على زناد البندقية، الأخر يده متحفزة على الحزام، امتدت يدي المرتعشة التي يقطر منها الماء إلى جرس الباب، ضغطت الزر مرتين، لحظات مرت قبل أن أعاود الكرة، سمعت مزاليج الباب تفتح كانت كثيرة على ما يبدو، تعالت دقات قلبي، مثانتي تنتفخ أكثر وأكثر، أيقنت بأني لقيت حتفي، اللحظات التي سيفتح الباب خلالها هي أخر لحظات حياتي، التفت إلى الخلف حيث يقف أحد الرجلين مستنداً إلى الجدار وإصبعه على الزناد، بصرير طويل فُتح الباب، طالعتني هيئة كهل قصير تجاوز السبعينات بسنوات عديدة، يرتدى بيجامة نوم بيضاء مخططة بخطوط طولية زرقاء، بعينين شبه مغلقتين ظل يحدق بملامحي لحظات قبل أن ينقلهما نحو الرجلين، بدا لي وجه الكهل المغضن وشعر رأسه الأبيض الكث مألوفا للغاية، أتراه هو بطرس سمعان ؟، وقبل أن أقول شيئا أو ينطق الرجل الواقف إلى جواري أي كلمة هتف العجوز بعصبية وهو يلوح بكفه في الهواء:

  • اليوم من أين اتو بك ؟يا شباب نعتذر والله نعتذر منكم .

تبادل الرجلين نظرات ذات معنى قبل أن يتابع العجوز قائلاً بتوتر وهو يلوح بكفيه على غير معنى:

  • ألف شكر يا شباب ألف شكر لكم، كل يوم نفس القصة، كل يوم ونعيده من مكان.

مع إنى لا أعرف عما يتحدث العجوز إلا أن حديثه وبهذه التلقائية الشديدة التي بدت لي مقنعة للغاية أعجبتنى كثيراً، لقد أنقذنى من  هذا المأزق، لابد وأنه عرف من أكون وعرف مأزقي، هز رجلا الكتائب رأسيهما بتفهم وتبادلا بعض الكلمات مع العجوز الذي غاب للحظات في المنزل ثم عاد حاملاً بعض الأوراق قدمها للرجلين  الذين قلباها بسرعة ثم غادرا مشيعين باعتذارات العجوز وتشكراته، لا أدري ما يجرى هنا، لكن ما يهمني الآن أني نجوت، نعم نجوت من موت محقق، نقلت بصري نحو العجوز الذي استدار نحوى وخبط كتفي بكف واهنة وهو يقول أشياء غاضبة لا أذكرها.

بدا لي هذا العجوز بصراخه وملامحه وحركاته العصبية مألوفاً للغاية، دلف العجوز نحو الشقة، وجدت نفسي اتبعه وعيناي مسمرتان أمامي، عاد العجوز نحوي بعصبية وأغلق الباب خلفي بعنف وأخذ المفتاح في جيبه قبل أن يصرخ قائلاً وهو يشير بأصبع مرتعشة إلى جوار الباب :

  • إخلع حذائك وضعه هنا.

شعرت بالحرج الشديد، غاب العجوز في الداخل وهو يجر خلفه ذيلاً طويلاً من اللغط والصراخ، بدا لي كل ما في البيت مألوفاً، رائحة رز يُطبخ، رائحة صابون تفوح من أغطية الطاولات والستائر، رائحة الأثاث القديم والسجاد، الجدران، تدافعت الوجوه من الداخل لتشاهد هذا القادم ، بدأت اشعر بالدفء يتسلل إلى جسدي المبلل، وجوه صغيرة اندفعت نحوي لتعانق ساقاي هاتفة بود :

  • بابا… بابا.

ابتسمت بحذر … هناك حتماً خطأ ما … لوحت بكفي أمام صدري وأنا أحاول أن أشرح ما يجري، امرأة عجوز تضع غطاء صوفياً على كتفيها اقتربت منى باسمة بحنو والدمع يحتشد على أعتاب مقلتها، الرجل العجوز ما زال يصرخ في الداخل، رن جرس الباب ، تجاوزتني السيدة العجوز، فتحت الباب، استدرت إلى الخلف، عاد رجال الكتائب، تبادلوا حديثاً خافتاً مع السيدة وهم ينقلون أبصارهم نحوي، إنسل الأطفال إلى الداخل، أعطوا السيدة ورقة مطوية ثم غادروا، أغلقت السيدة الباب وعادت  تجر خطواتها جراً، الرجل العجوز ما زال يصرخ في الداخل، يبدو أن حالته مستعصية على الرغم من أنه أحسن التصرف معي وأنقذني من موت محقق، ناولتني السيدة الورقة المطوية وشبح ابتسامة خافتة يتراقص على وجهها  قبل أن  تتجاوزني نحو الداخل، اعتقد  أنها نطقت اسم نجوى أو هكذا يخيل إلى، نقلت ناظري نحو أحد الجدر حيث تستقر صورة كبيرة تتوسط إطار ذهبي أنيق، بدا لي وجه صاحب الصورة مألوفاً للغاية، في تلك اللحظة لفت انتباهي تلك الورقة التي دستها السيدة في يدي، قلبتها كانت بطاقة هوية لشخص ما،  فتحتها، رفعتها إلى مستوى عيناي، نقلت عيناي نحو الصورة المعلقة على الجدار، كانت بطاقة الهوية تحمل ذات الصورة المعلقة على الجدار دون أدنى شك، ليس هذا ما أثار دهشتي و استغرابي، ما أثار دهشتي واستغرابي حتى هذه اللحظة هو أن الصورتين كانتا لي أنا، وإن الهوية كانت تحمل اسما غريباً، بل غريباً جداً، اسم لا أعرفه  أبداً ولا أتذكر صاحبه إطلاقاً…

اسم بطرس ….

بطرس سمعان !!!

روائي وقاص يمني | خاص موقع قلم رصاص

 

عن قلم رصاص

قلم رصاص

شاهد أيضاً

وحشية

١ ثمة ملاك، أو هذا ما نظنه لأنه يرتدي لباساً أبيض، ينشر حوله هالة نورانية، …