(1)
كان سمّار يقضي وقته جالسًا في مضافة أبيه. وكان أبوه يردّد دائمًا في مجلسه المثل الشعبيّ: “إذا كبر ابنك خاويه.”
يردّد هذا المثلَ أمام الجميع، بل يعمل به أيضًا؛ إذ لم يشعر سمّار يومًا إلّا أنّه صديقه الحميم.
حسب سمّار أنّ هذه الأخوّة ستتيح له البوحَ بكلّ ما يجول في خاطره من أفكار، من دون أيّ خوف من ردّة فعل غير محسوبة العواقب. وذات جلسة لم يكن فيها سوى ووالده وعمّه، قرّر أن يصارح والده ببعض الأفكار التي تدور في خلده.
قال وهو يقدّم القهوة المرّة ممهّدًا لنفسه الحديث: “تعلم يا والدي لا يعجبني اسمي. أشعر أنّه عبء ثقيل أحمله معي أينما ذهبت. سامح الله جدّي، كان بإمكانه أن يُورثَ اسمَه لأحد إخوتي، ويترك لكم مهمّة اختيار اسمي.”
كان والد سمّار يمسك بيده أوراق دفتر لفّ السجائر، ويلفّ بأصابعه سيجارةً من الدخّان المُهرّب الذي أحضره له من حرّان شقيقُ زوجته الثانية المدلّلة. ابتسم حين سمع كلمات سمّار، وبدت أسنانُه الصفراء خلف شارب طويل مصبوغ بالسواد ويغطّي نصف فمه.
أتاحت ابتسامة الأب فرصة مناسبة كي يسأل سمّار والدَه عن الأفكار الحقيقيّة التي تؤرّقه منذ فترة، ولا يجد لها إجابات منطقيّة.
اقترب من والده وقال: “بصراحة، ليس اسمي فقط ما لا يعجبني، كذلك لست مقتنعًا بذاك الإله الذي أورثني إيّاه جدّي حين همس في إذني رافعًا صوتَ الأذان، وأعلنني مسلمًا من دون أن يُتيح لي اختيارَ الديانة التي توصلني إلى الله الخالق. لم أطربْ لهذا الأذان يومًا، بل نفرتُ منه، ومن الصلاة أيضًا، وصرتُ…”
لم يكمل سمّار حديثه حتّى هوى الأبُ بيده الثقيلة على وجهه، وصاح به: “اخرج، ولا ترِني وجهَك هنا مرّةً ثانية إلّا بعد أن يرجع لك عقلك!”
كانت آثارُ أصابع أبي ما تزال على خدّي حين أخذني عمّي في اليوم التالي إلى الشيخ أحمد. ولم أكن قد رأيتُ هذا الشيخَ النورانيّ الذي سيُخرج الشيطان الذي تلبّسني بمجرّد المسح على رأسي، والتمتمةِ ببضع كلمات لا يعرف معناها إلّا هو وربُّه وذلك الشيطانُ.
(٢)
مشى سمّار خلف عمّه، وهو يغطّي خدّه بيده خجلًا. كان يسترق النظر إلى الفتيات في سوق المدينة وهنّ يتمايلن بالبناطيل الإيطاليّة التي اكتسحت الأسواقَ وسلبتْ عقولَ الشباب، فلا ينجو من فتنتهنّ حتّى من يحمل في جيبه الحصنَ الحصين.
سمع سمّار الكثير عن الشيخ أحمد في سهرات مضافة والده؛ يروون عنه العجب العُجاب، لكنّه لم يسبق له أن رآه.
ينام الشيخ أحمد في المسجد الكبير. ومنذ الصباح الباكر يدلف إلى السوق الشرقيّة. يرتدي ثيابًا رثّة، ويحمل سبّحة خضراء طويلة، مائة حبّة وحبّة، يضرب بها النساءَ السافرات، واللواتي يقصدن السوق بلا جوارب، على مؤخراتهنّ.
“لعلّ الشيخ أحمد يعاني عقدةَ المؤخّرات المكتنزة مثلي تمامًا…” تزاحمت هذه الأفكار في رأسه وهو ما زال يمشي خلف عمّه بحثًا عن الشيخ المبروك الذي كان أمام مطعم فلافل السندباد.
يتزاحم أصحابُ المحالّ التجاريّة والمطاعم لإكرام الشيخ الجليل والتبرّك به. وهو لا يأخذ أموالًا من الناس، بل هم يكرمونه طمعًا بالخلاص من الشيطان.
(٣)
انتظرا الشيخ المبروك حتى أنهى أكل سندويشته، وتقدّما إليه مع من كانوا ينتظرونه قبلهما. تقدّمت امرأة خمسينيّة ترتدي ثوبًا من الدانتيل الأسود. شكت له بصوت خافت عدم حمل ابنتها التي تزوّجت قبل شهرين، فحوقل وبسمل، وأعطاها الوصفة السحريّة، التي سمعتُ منها: أعواد الحرمل والقرنفل، ولسان ضفدع ذكر عازب غير متزوّج، تشعل النارَ وترمي هذه الخلطة المباركة فيها مساء أوّل يوم خميس بعد انقضاء دورتها الشهريّة، وتقف فوق الدخان بعد أن تخلع سروالها وتسمح للدخان بالدخول تحت ثوبها، وتذهب لفورها فتندسّ مع زوجها في الفراش ليضاجعها، فتحبل بإذن الله.
خلعت الأم قرطها من أذنها ودسّته في جيب الشيخ، ووعدته بالآخر بعد الحمل المبارك.
أمّا الولد الذي أحضرته جدّته فكان يرسب في صفّه، ولا أحد يمكن أن ينجّحه إلّا الشيخ أحمد، الذي أمسك برأس الطفل بين يديه وبدأ يقرأ عليه حروفًا وكلمات يحاول الواقفون التقاطها دون جدوى. وضعت الجدّة سطلَ لبن الغنم في جوار الشيخ، وأخذت حفيدها لتشتري له مشبّكًا ولُقَمًا، وتعود به إلى القريّة قبل أن تنقطع المواصلات.
جاء دور سمّار، وقد تقصّد عمّه أن يبقيا آخر المنتظرين؛ فمشكلة سمّار مُخجلة كما يرى عمّه الذي اقترب من الشيخ وهمس له:
– نعتقد أنّ هذا الشابّ قد مسّه الشيطان يا شيخ أحمد!
– ما مشكلته؟
– يبحث عن الله، يريد أن يرى الله!
لم يكمل العمّ كلامه حتّى صاح الشيخ حسن: حي…حي…حي…
وبدأ يضرب بكفّيه على رأسه ويستعيذ من الشيطان الرجيم، ويتمتم بالآيات والسوَر القصار، ويركض في الطريق كالمجنون، حتّى اختفى بين المارّة الذين اعتقدوا أنّ الوحي قد نزل عليه.
صحفي سوري مدير موقع قلم رصاص