نور ملحيس شاب سوري في العقد الثالث من العمر، فقد عمله في مدينة حلب قبل أربع سنوات، دمرت قذائف الموت معمل المفروشات الذي كان يعمل فيه مع مئات العمال ممن فروا بعوائلهم هرباً من حرب لم يسلم من نيرانها لا البشر ولا الحجر، لم يجد نور ملاذاً له ولأسرته في ظل اشتعال كل تلك الدروب في بلاده إلا لبنان، وهناك حطوا رحالهم قبل أربع سنوات، يروي نور حكايته لمجلة قلم رصاص وهي مثل حكايا معظم السوريين الذين شردتهم الحرب وهدمت أحلامهم: «كنت أعيش في حلب مع زوجتي وطفليّ، كانت حياتنا جميلة بالنسبة لزوجين في بداية عمرهما، كان لدينا الكثير من الأحلام، أعمل في معمل مفروشات وأفكر بمستقبل طفلي الذي أردت تعليمه كي ينجز ما لم أستطع إنجازه أنا وأقصد الدراسة الجامعية، لأنني لم أكمل تعليمي أنهيت المرحلة الابتدائية فقط، كان ذلك يؤلمني في السابق بعد الحرب لم أعد اتحسر على شيء».
قصد نور لبنان على أمل أن يجد فرصة عمل يستطيع من خلاله إعالة أسرته، وضمان حياة كريمة لزوجته وطفليه، بعد ان ضاقت أوضاع الناس في المحافظات السورية الآمنة وقلت فرص العمل كثيراً، واستقر في البقاع قريباً من الحدود اللبنانية ـ السورية وبدأ رحلة البحث عن عمل، وعن ذلك يقول: «لم يكن الأمر سهلاً في لبنان كما ظننته، البلد الصغير يضيق بأهله ولا يحتمل قادمين جدد، وجدت منزلاً متواضعاً يأويني وأسرتي بإيجار شهري 200 دولار، وبدأت رحلة البحث عن عمل وهنا بدأت المعاناة، حيث أنني لم أجد عملاً بأجر مناسب، كثرة اللاجئين أثرت على فرص العمل وكذلك على الأجور، معظم أصحاب المصالح استغلوا ذلك فانخفضت أجور العمال كثيراً».
كان نور قد تعلم الرسم من والده الذي كان رساماً، وطور هوايته منذ كان في الرابعة عشرة من عمره، ولم يكن يعلم أن هذه الهواية التي كان يمارسها حباً بالفن وتجسيد الطبيعة عبر لوحات زيتية ستتحول يوماً ما إلى مصدر رزقه وعيش أسرته الوحيد في ظل ظروف قاسية يعيشها في غربة فرضتها عليه الحرب المشتعلة في بلاده منذ ست سنوات.
يضيف نور: «عندما لم أجد عملاً في لبنان، فكرت بالرسم، وقررت أن أجرب استثمار هوايتي القديمة التي كان الفضل بتعلمها لوالدي، اشتريت ألوان وبعض المستلزمات وبدأت بالرسم، هي معاناة حقيقية أن ترسم كواجب وظيفي عليك أن تكمله وتنجز أكبر عدد من اللوحات حتى تبيعها، كان ذلك صعباً علي في البداية ثم تحول لاحقاً إلى جزء من روتين حياتي اليومي، أقضي ساعات في الرسم وبعد أن أنهيها أجمعها وأبدأ رحلة أخرى هي الجزء الأصعب من عملي، وهي تسويق اللوحات وبيعها».
كل ثلاثة أيام يحمل نور ما أنجزه من لوحات وينزل بها من البقاع اللبناني إلى العاصمة بيروت ومناطقها، يختار مكاناً يقف به حاملاً لوحاته كي يبيع بعضها ويعود مساءً إلى بيته في البقاع بما يسد رمق أطفاله.
«في البداية كانت وجهتي المحلات المتخصصة ببيع هذه اللوحات لكن أصحاب تلك المحال لم يكونوا منصفين بالسعر الذي يعطونه لي، لا يدفعون في اللوحة الواحدة أكثر من 3 دولار، بينما تكلفتها علي دون تعبي حوالي 7 دولار، لم أوفق بالتعامل مع التجار لذلك اتخذت قراراً بأن أبيع لوحاتي على الطرقات في بعض المناطق اللبنانية، وبدأت الرحلة قبل أربع سنوات وما زالت مستمرة بما فيها من صعوبات ومعاناة، وأبيع لوحتي مقابل 13 دولار».
كثيرة هي المواقف التي يتعرض لها نور خلال عمله منذ أن يخرج من بيته حتى يعود إليه، مضايقات من شباب لبنانيين في الطريق، بمجرد أن يعرفونه سوري تبدأ المضايقات، إضافة إلى أن عناصر البلديات يطردونه أينما وقف لبيع لوحاته، رغم أنه لا يصيح عليها بصوت أو يعرضها في شارع إنما يحملها ويبقى واقفاً ولا يفردها إلا لمن يطلب منه أن يفعل ذلك من أجل أن يشتري، كذلك حظر التجول على السوريين في بعض المناطق رغم أن تلك المناطق تشكل السوق الرائج لتجارته البسيطة.
«المعاناة كثيرة وكبيرة تبدأ من السرافيس أغلبهم يأخذون مني أجرة راكبين بدل راكب بمجرد أن يعرفوا أني سوري، رغم إني أغلف لوحاتي وأضعها في حضني أثناء نقلها وهي لا تأخذ مكاناً أو تضايق أحداً، ثم اضطر لسماع سيمفونية كاملة خلال الرحلة من البقاع إلى بيروت عن السوريين الذين دمروا لبنان، إضافة إلى السخرية والاستهزاء وأحياناً تترافق مع كلمات نابية، لكن لا أستطيع الرد يعني السوري في لبنان يسمع مسبته بإذنه والأفضل له يعمل نفسه ما سمع وإلا تتطور الأمور من المسبة إلى الضرب، أما بالنسبة لأماكن البيع فأني أحمل لوحاتي وأطوف بها في بعض الأماكن تم طردي ومنعي من البيع في شارع الحمرا، وكذلك من الداون تاون، بدأت بالذهاب إلى جبيل وجونية وزغرتا وهناك أيضاً يطرونني عمال البلديات، رغم اني لا أنادي على لوحاتي أو أفردها بالشارع فقط أحملها وأقف وأعرضها لزبون يسألني عنها».
يعتبره اللبناني المؤيد للدولة السورية جباناً فرَّ إلى لبنان بدل أن يكون مقاتلاً في صفوف الجيش السوري دفاعاً عن مدينته حلب، وفي المناطق التي تدعم المعارضة السورية يعتبرونه جباناً لأنه لم ينضم إلى صفوف المعارضة المسلحة وقاتل جيش بلاده دفاعاً عن مدينته حلب، وهناك من يكرهه لمجرد أنه سوري، وعن ذلك يقول:
«بنظر بعض اللبنانيين أنا مجرد جبان هرب من الحرب بدل أن يدافع عن مدينته، وبنظر آخرين أنا جبان هربت وتركت شعبي يُقتل دون أن أدافع عنهم، أما الحقيقة فهي أنني شاب لا شأن لي بتلك الحرب خدمت جيش بلدي منذ زمن بعيد، وليس لي هدف في هذه الحياة سوى الحفاظ على عائلتي وضمان معيشة كريمة لأطفالي حتى يدرسوا ويكملوا تعليمهم».
حال نور حال مئات الآلاف من اللاجئين في لبنان، سجل نور في المفوضية السامية لشؤون اللاجئين في الأمم المتحدة، على أمل أن يحصل على مساعدات شهرية تعيله قليلاً على مصروف لبنان الباهض، إلا أنه لم يحصل على أي شيء منذ لحظة تسجيله قبل أربع سنوات، هو فقط اسم تم إضافته إلى سجل اللاجئين لُيستثمر في محافل سياسية لا أكثر، حتى أنه اضطر لإجراء عمل جراحي لطفله ودفع تكاليفه كاملة ولم تساعده الأمم المتحدة أو غيرها في تكاليف العمل الجراحي، وحول ذلك قال:
«تستغل مفوضية الأمم المتحدة تسجيل اللاجئين من أجل أجندتها السياسية، أما إنسانياً فهي مجرد خدعة وضحك ع اللحى، سجلت منذ قدومي إلى لبنان لكني لم أحصل على أي مساعدة، احتاج ابني إلى عمل جراحي ودفعت تكاليفه كاملة ولم تسهم معي الأمم المتحدة بشيء ولم نحصل منها على أي مساعدات غذائية، تصل بعض المساعدات من دول عربية إلى هيئات لبنانية، ونسجل من أجل الحصول عليها، وعندما نذهب للاستلام يضربنا عناصر الدرك اللبناني، ويشتموننا ويهينوننا ولا نستطيع الرد، ثم أن معظم الجمعيات والهيئات تسرق المعونات، الكراتين تكون مفتوحة وتم استبدال البضاعة القادمة من الدول العربية بأخرى صناعة لبنانية، ولا نعرف نحن ما جاء في تلك المعونات لأنها تُسلم باسم السوريين إلى الهيئات اللبنانية وبعد أسبوع أو أثنين يدعوننا لاستلام المعونة، ولا نحصل عليها إلا بعد أن يستمتع اللبنانيون بإذلالنا».
ويختم حديثه بالقول: «كل ما أتمناه هو العودة إلى سورية وأبوس ترابها وإلى بيتي في حلب، أتمنى أن تنتهي هذه الحرب كي أرجع وأشجع نادي الاتحاد مع أصدقائي، ذلتنا الغربة..ذلتنا».
مجلة قلم رصاص الثقافية