الرئيسية » رصاص حي » نزيه أبو عفش وحداد احتفاءً بالغياب…وسلاماً للموت

نزيه أبو عفش وحداد احتفاءً بالغياب…وسلاماً للموت

يسعى الشعراء إلى النهايات، كأنهم يحتفلون بالحياة على طريقتهم الصاخبة، يعيشون كل يوم كأنه يومهم الأخير! يتناول بعضهم أكثر القضايا عدمية ورعباً، كأنه يقولون للقدر “نحن نسدد نحو تعبك، وأنت تصطاد الناس”.. القدر هنا هو: الموت.

 قانون يختم مشوار حياة البشر، يتنقل من شخص إلى آخر ولا يمكن أن يتعافى أحد منه، يفاجئ الجميع، ربما، إلا الشعراء، إذ يكتبونه كاليوميات رفيق دربهم، كما قال عنه الشاعر الراحل محمد الماغوط حينما سألته هالا محمد في لقائه  الأخير: “هل تخاف من الموت؟”

أجابها الماغوط: “الموت صديقي..لا أخافه”.

عشرات الشعراء قبل الحرب بسنوات كتبوا عن الموت، عاشوا تفاصيله بدرامية مختلفة عن فجائع الآن، كأنهم تنبؤوا به، وهنا سوف نضع البيكار على بعض نصوص الموت لكل من الشاعر نزيه أبو عفش والشاعرة الراحلة دعد حداد.

الورق.. والآن!

 (الحفّار) يعود إلى الذاكرة، يرتب غياب الأمكنة والأشخاص، ينتقي الرثاء الذي يليق بصمته.

هي الجملة الشعرية التي ينحتها الشاعر نزيه أبو عفش (1946) في تلك القصيدة، متعمقاً بالمعرفة الزاهدة، كأنه يجمع المقابر على الورق “أحفرُ كي أراني” رؤيا الوجع وقراءة الغياب، هكذا، يعيد الشاعر وجعه إلى الأسلاف، إلى الأشجار والهواء، يصوّر بمهارة محيط الغابات ويؤنسن تفاصيله بعد أن نفخ الوجع في صور الحكاية.

تتباعد الأصوات و”الدودُ الشقيٌّ ينسجُ النسَ في أبدهِ الداكنِ” يصوغ في عوالم الموت مشهديته الأبعد، الأعمق في دروب الأسى، والرضى يجلس فوق العناوين بعيداً عن القدر، لا تدخل تلك القصيدة إلى الأغاني، بل تسرقها الصرخات على عتبات الصراخ العالي:

أستنطِقُ ما يهبُّ من ظلامهم على فمي../أقولُ ما قالوه؛/

أُحْيي شجنَا لكلامِ في محبرة الكلامِ؛/ أرعى غنمي على مروجهم؛/ أشربُ من إناءِ موتهم؛/ أقول ما قالوهُ: “ما يقوله الظلامُ لي”.

تبدو الحقيقة لدى الشاعر أبوعفش أبديّة كالموت، ففي قصيدة (الحفّار) تلمّح اللغة لم هو أبعد من الصور، أقرب إلى النبوءة، الانسان أمام عواصف قدره، متخماً بالخيبات وواهماً بأمل الخلاص، يأتيه الشعر أغنية طويلة لا تنتهي حتى لو في القبور..

هذا العالم الذي يجسده الشاعر في معظم تجاربه الشعرية محللاً لعناصر الكارثة بروح إنجيلية، إذ نتلمّس حضور القداس ولوثة الأناشيد الكنسية في اللغة والصورة، لم يكن ثمة حرب، بل إنسان سوري يناجي أوجاعه ويرى، الآخرة مزركشة بالرحيل المنتصر.. على عكس ما يقوله اليوم في قصائد جديد أكثر كثافة وأشد ألماً كما في قصائده التي ينشرها على صفحات جريدة الأخبار اللبنانية:

“نعم ! أنا المنتصر…/لم يبقَ لي عدوٌّ ولا صاحب/..

لا ذاك يستطيع أن يكون وارِثي، ولاهذا يستطيع أن يحلم../ «أنا المنتصر» / صرختُ كما لو أنني أريدُ إسماعَ الموت./ منتصرٌ، وحيدٌ، ولا شريكَ لي./

كأنني الربّ…/ منتصرٌ ووحيدٌ في سماءِ نفسي./

كأنني الربّ:/ وحيدٌ… و«لا أحد»”.

أصبحت التجربة وسط الخراب، وأصبح الموت حقيقياً لا كما كان على الورق ولحن القصيدة، إنه يتلاشى في تسلسل فكري أقرب إلى الناس، وأبسط مما كان عليه قبل، عصبة التفكيك باتت بعيدة، فالنص هنا يصل بنيرانه التي يسقيها السوري من مأساته اليومية.

تصحيح خطأ الموت

في بداية تسعينيات القرن الماضي، مضت الشاعرة دعد حداد (1937-1991)، رغم شغب الأزمنة التي عاصرتها، عاشت وحيدة كالضوء، وكتبت قصائدها في الحدائق العامة وعلى أرصفة العتم، كانت تعرف تماماً أن النص الذي ترثيه هو ذاتها الضائعة على عتبات الجحيم، وحشة وأسئلة بحجم الضيق الذي كان تعيشه البلاد في الثمانينات، نشرت كتابها الأول (تصحيح خطأ الموت) وفيه محاولة صامتة لرسم موسيقى الألم والشوارع المرعوبة: “أيها الدرب الموحش!/ يا درب الحب!/ سأعد خطواتي، / فالوحدة علمتني العد”.

يتناهى لدعد حداد موسم الرحيل إلى الذات، تقصي مواجع المرأة ووحدتها، إلتماس الصرخة دون أن تجلد الآخر، تمرر عباراتها على سلم موسيقي قلّ استخدامه في الشعر السوري، حيث نلاحظ حرصها الشديد على ألا تكون الصورة مجموعة تشابيه، بل ثمة سعي لأن تغرق التفاصيل في شعريتها المخفية، حيث الضوء واللون شركاء اللغة، والمرأة التي تكتب قصيدتها هنا أخيراً ستصبح “الشجرة التي تميل نحو الأرض” جذور تضرب في الأسى، تسمع أنين من مضى، وتشهد للصوت أنها أخر قصيدة في برزخ المدينة…

“في غرفة ستائرها قرمزية وهواؤها، بلون الرصاص/ الذي خضب قلبها الطفلي/ مخترقاً الستائر الحمراء/ وثقباً ولخيوط الفجر الغجري/ ملوحاً بمنديل عرسها المبلل../

 وهي تنتظر../ في ساحة الغجر/ تصحيح خطأ الموت!!/ وإغلاق المكان.”

ربما قصدت الشاعرة بكلمة (التصحيح) رفض مسار الاستسلام لقدرية الكائن بالفناء الأخير، بدأت على نحو خاص بإعادة الحياة إلى طريقها الذي تراه، طريق المغامرة، لقد قدمت أوراق تحمّلها قبل أن يفكر الزمن بسرقة همومها وحرف عاطفتها نحو الأمل، صححت خطأ الموت بالشعر.

 كاتب سوري | موقع قلم رصاص

عن عمر الشيخ

عمر الشيخ
شاعر وصحافي سوري. يعيش في قبرص. أصدر ثلاث كتب شعرية، وعمل في إعداد البرامج التلفزيونية والإذاعية والتوثيقية في سورية. يكتب في الشؤون الثقافية لعدد من الصحف والمواقع الإلكترونية العربية.

شاهد أيضاً

“الطريق إلى المرمى” مجموعة قصصية للكاتب هاني الصبيحي

صدرت عن دار الخليج للنشر والتوزيع في العاصمة الأردنية عمان مجموعة قصصية للكاتب الأردني هاني …