أحمد كرحوت |
أعدائي القراء، هل شاهدني أحدكم وأنا أتسلق شجر الأكاسيا لأكون على مقربة منكم علكم تسمعوني، هاأنذا أتصاعد أمامكم كالهواء الأصفر، كالغازات المسيلة للدموع واللعاب، هل رأى أحدكم احتضاري ساري المفعول منذ ولدت في بلد عربيّ !!
لا أملك سفينة أو طائرة لأخلص أبي من قداسة الحدود المحترقة, لم أؤسس حزباَ أو كتلة وطنية, لم أشارك في توقيع اتفاقيات وصاية أو احتلال لأرضي, ليس لي إلا ذراعين مبتورين وخمس أصابع شمعية أصهرها كل ليلة قبل أن أنام خوفاً أن تكتب يوماً خلسة عن استبداد الإمبراطور في دائرة الطباشير القوقازية أو حول برجوازية الحكم في جزر سانت كيتس ونيفيس نظراَ للعلاقات المبهمة بين البلدين الشقيقين الممتدين بين رأس شمرا والبحر الكاريبي, لا شيء لي الا قدمين تملؤها المسامير والبراغي وصفائح الألمنيوم والنحاس وثلاثي اوكسيد البلاستيك..
أنصتوا لخطواتكم قليلاً قبل أن تفقدوا موسيقاها الطرية كالإسفنج والقوية كالكلمة، فكّوا الحبال عن أعناق الأجيال المحطمة كسيوف أكل الدهر عليها وشرب، علّموا أبناءكم أن مناجل الفلاحين ليست ساذجة كأقلامنا الرصاصية، وأن عظمة الأرض لا تكبر حين تسقى دماً، علموا أبناءكم أن الوطن لا شيء حين يكون بلا حب أو أصدقاء..علموهم أنهم الأوطان والأرض لا شيء أكثر من تراب وعفن ..
وأن الكتب ليست تاريخ وجغرافيا وقومية فقط، نعم أيها السادة مازلنا نردد كلمات تاريخ وجغرافيا رغماً عن أنوفنا نحن الضائعين في أنف بعوضة ونطلق كلمة قومية على سيارات بلا أرقام تعتدي على الشحاذين و إشارات المرور الضوئية, نطلقها على القاعات الفاخرة ولصوص الهواء وبرادات الفاكهة الهاربة من الزبداني وشاحنات تهريب التربة الخصبة والسدود وملح الأرض ودود السماد من سهل حوران إلى القطب الشمالي, كل شيء في اعتداله هو خير إليك إلا حين تموت من الصعب أن تكون واقفاَ على الحياد, تودع جثمانك المحترق بنظرة أخيرة قرباناَ لسواك..
أيها الذباب المحوّم فوق جثة رمادية، يا بلاد الكره والحقد المعبأة في علب سردين باهتة بلا ألوان أو صور, أيتها الشعوب المحطمة كقلب طفل عاصر الحرب منذ بكائه الأول, يا عناصر المخابرات الأرذال, أيها العملاء المزدوجين والمخبرين أيها الثوار أيها الشيوخ, أيها الطابور الخامس والخلايا النائمة في المدارس ودور الأيتام والمقابر, أعطوني قارئاَ واحداَ أعطيكم ألف كاتب ومؤلف, أعطوني ثورةً واحدة انتشلت فقيراً من بؤسه أو استطاعت المحافظة على حياته حتى نهايتها أعطيكم نظاماً عربياً بلا سجون سياسية، أعطوني رجل دين صالح أعطيكم ألف شريعة ونبيّ، أعطوني سلاحاً في الحرب أعطيكم جثة بلا أطراف بلا لسان أو عينين , جثة تشبه الوطن تماماَ.
كل شيء يبدأ في نهايته ، وكأن الحياة بمجملها تتلخص بأفلام الحروب الوثائقية أو في كتب القومية التي تشرع دائماً أولى صفحاتها بالتعددية السياسية والاقتصادية وتنتهي بأن تلك التعدديات تعود جميعها لحزب واحد قائم بذاته ولجيب واحد ، الجيب السحري ذاته الذي كان يوزع علب السمن والزيت والأقلام المكسورة والدفاتر المسطرة والضمائر المستترة وأحرف الجر وأدوات النصب والرفع وحقائب المدرسة والألوان الخشبية كمأثرة وصدقات مباركة, كل شيء في بلادنا يقع تحت سلطة التعددية الاقتصادية (الواحدة) والتعددية السياسية لحزب لا شريك له ..
كل شيء يتم توزيعه في طوابير, نشتري توقيع أمين الحزب الواحد في طابور لندخل قاعة سينما أو نجلس بزاوية على رصيف أمام قصر البرلمان, نشتري مباركات أسيادنا في طابور لندخل الجامعات الفاسدة, نشتري تذاكر المغفرة ليدخل وزراءنا الجنات ونبقى في جحيم الجوع والعراء والبرد, نشتري عصا الطاعة بملء إرادتنا وكامل قوانا السمعية فقط, نبيع مبيدات الديدان والحشرات الصغيرة لنستورد مبيدات بشرية أكثر ضخامة ومفعولا, وأخيرا نصلي لله على أننا خير أمة أدخلت بين الناس عنوة, نشتري القبور بكل ما نملك من علب بيرة معدنية وفوارغ زجاجات النبيذ الفرنسية شفقة على أجسادنا المسكينة, كي لا تُترك تحت النار المندلعة من أفواه الشعب ومِعَدِهم الفارغة لتتحول إلى بترول يضيء عتمة قصر المهاجرين أو يحرك سيارة أحد المسؤولين في الحكومة منتهية الصلاحية والشرعية إلا في نظر ذاتها, نشتري الخُرافات بالطمأنينة والأباطيل بالولاء..
املئوا آذانكم بصخب العواء والنحيب، املئوا أرجلكم بالطين المكوم فوق أرصفة العشوائيات، املئوا قلوبكم بالحقد والغل والترهيب والخوف املئوا عقولكم بصور التوابيت والأكفان وصدأ الحديد على رؤوس بنادقكم ، المهم أن تبقوا على الحياد وأن لا تقربوا الكتاب فهو سمّ قاتل.
كاتب وشاعر سوري ـ اسطنبول| موقع قلم رصاص