من شب على شيء شاب عليه لا يحتاج هذا المثل المعروف إلى تبسيط معناه، إنما اتكئ عليه لأتحدث عن تدني مستوى الأخلاق لدى الأجيال المتعاقبة، إذ أن هذا الهبوط الحاد في مستوى الأخلاق لا يمكن أن يكون وليد اللحظة، بل هو على الأغلب يعود إلى مراحل الطفولة المبكرة، وإن اختفاءه أحياناً لا يتعدى مروره بمرحلة كمون يفرضها المجتمع بعاداته وتقاليده، لكنها ما تلبث أن تنتهي مفجرة حالة حقيقية ومزمنة من الانحطاط الأخلاقي والثقافي والاجتماعي في آن معاً. وقد شكلت الحروب المستعرة في هذا العالم فرصة لتفجيرها وإظهارها على حقيقتها دون أدنى حياء.
كان الأهل والأقارب وما زالوا في المدن والبلدات والقرى السورية وفي مختلف البيئات، ما أن يبدأ الطفل بالمشي والاستجابة للمناغاة بالابتسامات وتأدية بعض الحركات حتى يقولون له بلهجاتهم المحلية المختلفة: «اتفل على عمو»، أو «تف على عمو»، أو «أبزق على عمو».
وما أن يكبر قليلاً ويصبح يعرف النقود والذهاب إلى البدّالة حتى يبدأون يغرونه بالمال لتنفيذ المهمة ذاتها، فيرددون على مسامعه، «اتفل على عمو» واعطيك خمس ليرات، «ابزق على عمو» واعطيك عشر ليرات، «تف على عمو» واعطيك ليرتين…إلخ.
هذا ما يتعلمه أطفالنا في سني طفولتهم المبكرة، وهذا ما نشأت عليه معظم الأجيال المتعاقبة، وهذا ما اكتسبوه من محيطهم الذي تربوا وعاشوا فيه وهم يعتقدون أن كل ما يقوله الكبار صحيحاً.
كبر الأطفال وغدوا اليوم شيباً وشباباً وبقي هذا ديدنهم, فالطبع يغلب التطبع، وقد أصبحوا اليوم كتّاباً وصحفيين وأدباء ومثقفين ونقاداً وشعراءً وفنانين ومسؤولين وعواطلية وشلنتحية واستمروا بالبصق والتف، بعضهم ما زالوا يقبضون ثمن بصاقهم بالليرة، وآخرون كبر طموحهم وأجادوا استثمار لُعابهم في غير الاستمناء، وأصبحوا يقبضون ثمن بصاقهم بالعملات الصعبة، و”يتفون” في كتاباتهم وأحاديثهم فوقهم وتحتهم وعن يمينهم وعن شمالهم كمن يقرأ تعويذات خنفشارية لدرء الحسد، وهذا يعكس ضحالة التربية الأسرية وواقع البيئة غير السوية التي نشأوا فيها، لذلك يجب أن لا نستغرب ونحن نشاهد في تفاصيل حياتنا اليومية ووسائل الإعلام التي نطالعها مستوى الانحطاط الأخلاقي والانحدار الثقافي الذي وصلنا إليه لأن مثل هذه الأفعال الآنية تعكس الهوية الاجتماعية لهؤلاء البصاقين.
والأفظع من البصاقين المأجورين اولئك البصاقون بالمجان ممن أخذوا الأمر كهواية وهم لا يوفرون فرصة للبصق، حتى في الصحون التي أكلوا منها، ويحاولون إبراز أنفسهم بأية طريقة حتى لو كانت وضيعة فالغاية عندهم تبرر الوسيلة مهما كانت.
إن أفضل الحلول للتعامل مع هذا النموذج من الكائنات المحيطة بنا، هو التجاهل، نعم تجاهلهم لأنهم يعتاشون من بصاقهم، وإننا إذ نتجاهلهم نحرمهم متعة التلذذ بإغاظتنا ونحجب عنهم الشهرة التي يبتغونها.!
مجلة قلم رصاص الثقافية